منذ وقت غير بعيد، أصبحت الأخبار التى تأتينا من الحبشة وتتعلق بنهر النيل، مثيرة للقلق والتوجس وتوقع المصائب..وعندما أصبحت الأخبار أموراً واقعية، منشآت وسدود وتحويل لمجرى النيل الأزرق، فإنها تحولت إلى كابوس يطير النوم من العيون..ً فتشغيل هذه المنشآت معناه أنه خلال سنوات قلائل ستقل كمية المياه التى تصلنا- وهى غير كافية أصلا- بدرجة تحرمنا من زراعة مليون فدان..ً وهذا النقص سيؤثر على مياه الشرب كما ونوعا، وعلى المياه الموجهة للصناعة، كما ستأخذ الملاحة النيلية والسياحة ضربة موجعة. ليس هذا وحسب، بل إن الكهرباء المنتجة من المحطات المائية ستقل بنسبة تصل إلى 20٪ وأكثر.. ولا أريد أن أستطرد، فقائمة السلبيات والمصائب أطول من هذا.. والمصريون جميعا مطالبون بمواجهة الكارثة أو الكوارث التى تصنعها أثيوبيا بإصرار ومكر وثبات. ولابد من إعداد والاتفاق على برنامج دقيق ومفصل وعلمى لهذه المواجهة.. وهذا البرنامج ستصوغ قواعده، أوسع دوائر ممثلى الرأى العام، خبراء وأجهزة ومؤسسات ومتخصصون فى مختلف الفروع.. ومن الطبيعى أن يكون هناك عقل متفرغ ومتخصص وفعال يقود هذه المواجهة.. وعلى طريق صياغة هذا البرنامج الوطنى الشامل، تبدأ كلية الهندسة بجامعة أسيوط بإقامة ندوة عن سد النهضة يوم 30 مارس الجارى، يشارك فى نقاشاتها الدكتور نصر علام وزير الرى الأسبق، والدكتور ماهر نور الدين أستاذ الموارد المائية بجامعة القاهرة، والدكتور هشام بخيت أستاذ هندسة مصادر المياه، وهانى رسلان الصحفى الخبير فى شئون السودان وشرق أفريقيا فى الأهرام.. ويفتتح الندوة الدكتور عبدالسلام عاشور أستاذ المنشآت المائية بأسيوط، والدكتور عبدالسميع عيد عميد هندسة أسيوط واللواء إبراهيم حماد محافظ أسيوط ويديرها الصحفى النشيط حمدى رزق.
وبمناسبة انعقاد هذه الندوة وقبل متابعة وقائعها، يهمنى أن أضع أمام القارئ الذى لابد أن تشغله هذه القضية بعض المقاربات:
1- برنامج المواجهة الذى أشرت إليه والذى لن يظهر قبل مداولات شاملة وعميقة، من المهم أن تكون بداية مداولاته، إجراء تقييم دقيق لمرحلة المفاوضات التى دارت بين دول حوض النيل، فى العقدين الأخيرين تحت مظلة مبادرة حوض النيل، ثم تجمع تكنونيل، وشاركت فيها مصر، وبشكل أساسى البنك الدولى.. لا أذكر أن الدكتور محمود أبوزيد وزير الرى، خلال تلك المرحلة تقدم للرأى العام بما يشير إلى ما يجرى بين ممثلى هذه الاجتماعات من آراء.. ولا أشير هنا تصريحا أو تلميحا إلى أى لوم أو اتهام بتقصير للفريق المفاوض.. فلابد أنهم كانوا ينفذون سياسة متفقا عليها..وأذكر أننى فى تلك المرحلة لاحظت أن الدكتور رشدى سعيد أكبر الخبراء فى جيولوجية النيل وقضاياه كان متشككا فى نوايا هذا التجمع، بسبب الدور الكبير للقوى الدولية، التى يمثلها البنك الدولى فى تحريكه.
وقلت له: ولكن هل يمكن استبعاد القوى الدولية من دس أنفها فى هذه المنطقة من أفريقيا؟!
وأجابنى: ليس هذا ما يشغلنى، ولكن أهداف هذه القوى غير معروفة لنا، لقد حاولت أن أعرف خطة البنك الدولى لتنمية نهر النيل، فلم أتوصل لشىء رغم تكرار المحاولة، بل إننى تأكدت فيما بعد أنه حتى ممثلى حكومات دول الحوض لا يعرفون خطة البنك الدولى، وأن الوزراء المشاركين فى التجمع لا يعرفون إلا ما يرى البنك أن يعرفوه.
∎ الطرف الخارجى
2- ولكن القوى الخارجية طرف أساسى فى كل ما يتعلق بالنيل وقضاياه.. وهذا الوضع ينسحب على الماضى والحاضر والمستقبل.
فطوال الفترة الاستعمارية يعود للإنجليز وهى القوة العظمى آنذاك كل القواعد التى وضعت لإدارة النيل وحوضه.. وأنه أمر ذو دلالة أن الكتاب الأهم عن النيل فى بدايات القرن العشرين بعنوان «النهر» كان من وضع تشرشل السياسى الإنجليزى الأشهر بعد رحلة ميدانية قام بها.
وهناك عبارة جاءت فى الكتاب، جرت مجرى الأمثال يقول فيها: «النيل ودول الحوض أشبه بنخلة جذورها فى المنابع وساقها النيل وأغصانها وثمارها فى مصر، وأن الجذور لا تمتد دون الفروع فى نهايته، والثمار لن تطرح دون الجذور.. والعبارة تجسد الحقيقة الجغرافية ببراعة.
المهم أن إدارة هذا المورد الطبيعى كانت فى يد البريطانيين بالكامل فى تلك المرحلة.. وظلت القواعد التى وضعوها سارية بعد انسحابهم وطى صفحة الاستعمار.. وورثت الولاياتالمتحدةالأمريكية، الإمبراطوريات السابقة عليها، ولم يكن النيل بعيدا عن نفوذها.. وعندما نجحت مصر فى بناء السد العالى، رغم اعتراض أمريكا، فإنها لم تستسلم.. ولكن قررت التعاون مع الحبشة، للرد على تصرف مصر، وأرسلت بعثة فنية سنة 1958 كبيرة ظلت شهورا، وضعت بعده برنامجا كاملا جوهره الرد على الخطوة المصرية.. ولابد أن الخبراء يعرفون أن كل المشروعات التى نفذت أخيرا وردت فى التقرير الذى وضعته البعثة الأمريكية لتحويل مياه النيل الأزرق وبناء عدد من السدود عليه لحجز المياه وتوليد الكهرباء.
ما يجب ألا يغيب عنا أن القوى الخارجية لم يكن النهر بعيدا عن أصابعها، فى أى وقت. 3- بعد ذهاب الاستعمار ودخول أفريقيا فى مرحلة الاستقلال، فإن موقف دول حوض النيل كان رفض الاتفاقيات المبرمة فى عهد الاستعمار والتى تتعلق بالنيل.. وكانت أثيوبيا الأشد رفضا، وبالذات بعد بناء السد العالى، بل إنها قررت فصل الكنيسة الأثيوبية عن الكنيسة المصرية.
∎ سياسة مصر
وكانت السياسة المصرية تتمثل فى التمسك بالاتفاقيات والتعاون مع دول الحوض فى كل ما يتعلق بتنمية النهر وترويضه والمحافظة على مياهه الضائعة، سواء مع كل دولة على حدة، أو مع كل دوله معا.. وكان ما يشغلها هو المحافظة على حصتها المائية مستندة على القوانين والأعراف الدولية وغير الدولية.. ولم تكن تتوانى عن مساعدة الأشقاء الأفريقيين.. وكان لديها إحساس أن كل دول الحوض ليست فى حاجة إلى مياه النيل، فلديها مياه الأمطار، كما أن التحكم فى المياه من الضياع، يوفر المليارات التى تكفى وتفيض. 4- ولكن متغيرات طبيعية ومناخية واجتماعية وسياسية تراكمت خلال عقود أخيرة قبلت هذا الوضع تماما.. وكل ما فعلته أثيوبيا هو أنها عادت إلى التقرير الذى أعده الفنيون الأمريكيون سنة 8591.. وإعادة النقاش والمراجعة حول الاتفاقيات الدولية المعقودة فى الحقبة الاستعمارية أصبحت مطروحة فى ضوء ظروف جديدة، وهذا يحتاج إلى نهج جديد وطرح مقنع.
من النقاط المهمة التى ينتظر أن يتوفر عليها الباحثون، ونحن بصدد إعداد برنامج مدروس، هو كيفية التعامل مع هذه القوى الدولية بمختلف أدوارها وأوزانها، وأن نبدأ من نقطة كيف نكسبها لصف المنطقة ومراعاة الحقوق والاحتكام إلى التراث المهم حول قواعد التعامل بين الدول المتشاركة فى مورد مائى واحد، وليس منازلتها.
ليس هذا مجال الدخول فى التفاصيل، وإنما هو مجرد الإشارة فقط إلى طرف مهم، لا مفر من مخاطبة مسئولى وصناع القرار والخبراء وقوى الرأى العام.
5- حين يتطرق الحوار عن العمل فى الجبهة الداخلية، فيجب أن تكون الوقفة طويلة ومتأنية وصريحة، هناك محاولات تمت عبر السنوات لترشيد استخدام المياه، والمحافظة على ما لدينا والبحث عن مصادر جديدة.. وقد تأخرنا فى المواجهة، وعلينا تعويض الوقت الضائع، أذكر أن الكاتب اليقظ أحمد بهاء الدين كتب مقالا ربما منذ أربعة عقود نبه إلى ضرورة مواجهة الوضع المائى، وأذكر عبارة جاءت فيها، «لقد اعتاد الفلاح المصرى أن يغرف من ماء لا ينفد، وهذا المسلك يجب أن يتغير تماما»، ولا أظن أن أحدا استمع إلى دقات هذا الجرس.
6- معروف أنه ولدت عندنا مع بدايات القرن الماضى ما عرف بمدرسة الرى المصرية، تضم المتخصصين فى كل ما يتعلق بشئون النيل، وكنا يوما نطمئن لهذه المدرسة، ولا أظن أن الأمر كذلك اليوم، ففى كتاب الدكتور نصر علام وزير الرى الأسبق إشارة إلى أن فروعا حديثة مهمة، لا يوجد لدى وزارة الرى متخصصون فيها، كيف يمكن استعادة هذه المدرسة فى غمرة تطلعنا إلى إعادة بناء مصر وإنهاضها من كبوتها، لا أنسى كلمة لأستاذ جغرافيا فى ندوة حول أزمة المياه، فى سبعينيات القرن الماضى، قال: لقد علمنا أساتذتنا أنه لا يحق لجغرافى أن يتحدث عن النيل، دون أن يقطعه على قدميه من منبعه إلى مصبه.. يقصد المعرفة المباشرة ويقصد بأساتذته رواد الجغرافيا محمد عوض محمد وسليمان حزين وعباس عمار وغيرهم.