على مدار الأسبوعين الماضيين كتبنا عن قرية بحطيط - مركز أبوحماد - وكنا بين ووسط شبابها وناسها الذين تحدثوا بمنتهى الوعى والتلقائية عن أحوالهم وأحوال مصر، ذكاءهم الفطرى حرضنى أن أفسح لهم حلقات أسبوعية، لا كرماً منا ولكن استحقاقاً هم جديرون به، حاورتهم وسمعت منهم عالمة الاجتماع السياسى الدكتورة هدى زكريا.. ويبقى السؤال؟.. لماذا قرية بحطيط خاصة وهناك مئات وألوف القرى فيك يا مصر لها نفس الشباب وذات الأحلام وطبق الأصل من الهموم ولا يقل ناسها وعياً وإدراكاً، حاملين أملاً وخيبة أمل فى ذات الوقت. قرية بحطيط - بالنسبة لى على الأقل كانت مكاناً مجهولاً - لم أسمع عنه من قبل، فقط تردد أمامى اسم شخص ما اسمه مجدى قاسم، وجه دعوة لزيارة قريته، وكانت تلك الدعوة من خلال صديقتى الأستاذة الدكتورة هدى زكريا التى ذكرت أن ذلك الرجل عائداً من أمريكا بعد رحلة اغتراب دامت نحو 28 عاماً.
عاد إلى وطنه، تحديداً.. أعادته الثورة المجيدة إلى وطنه، وقرر العودة إلى أحضان قريته التى لم تكن تربطه بها رابط سوى والدته رحمها الله.. عاد ليسدد الدين إلى وطنه.. وما أكثرها الديون التى نتحملها تجاه هذا الوطن وناسه.. وما أكثر المتهربين من ردها.
مجدى قاسم: المواطن المصرى الذى تخرج فى المعهد العالى للسينما، سافر إلى دول كثيرة واغترب كثيراً إلى ان استقر قى أمريكا، وكانت هناك أسرته وعمله كصحفى ومصور حر ومجالات عمل كثيرة أضافت إلى تكوينه الإنسانى والمهنى ولثقافته، ولكن كحال الكثيرين من المغتربين والمهاجرين، استقر معه الوطن وسكنته مصر فى أمريكا.
كان مجدى قاسم ممن حلموا بالعروبة وبالدولة المدنية، ممن حلموا بالعدل، ممن حلموا لمصر بما تستحقه، وهو أيضاً ممن استشعر رائحة «الوهابية والغزو الثقافى المصبوغ» بصبغة دينية بعيدة كل البعد عن وسطية المصريين، كان واحداً ممن حلموا بالابداع وحريته، وممن راهن عليه أيضاً.
هذا الرجل من النوع الذى يخجل من أن يتحدث عن نفسه، كلما سألته عن رحلته الطويلة، حدثنى عن مصر وعن اهل قريته، كلما سألته عن إنجازاته هناك ولم عاد، حدثنى عن الثورة المصرية وروعتها، وشعوره بالتقصير تجاه وطنه، وكيف يمكن لنا استعادته ممن يريدون المتاجرة بهذا البلد الذى لن يكون أبداً بضاعة فى يد جماعة منتفعة ومتسلقة، تتاجر بأى شىء وكل شىء - حتى وإن كان الدين - ولكنها لن تستطيع المتاجرة بمصر وهذا هو دورنا.
كان السؤال الأهم: لماذا عدت ونهائياً من أمريكا إلى مصر؟
أجابنى مجدى قاسم: بصراحة الثورة المصرية العظيمة كانت الدافع والمحرك الأساسى لقرارى، والقرار دائماً له أسباب فى الخلفية، ولتدركى سبب عودتى، دعينى أقول لك. سبب رحيلى: رحلت من مصر عندما شعرت أننى غير قادر على تأدية دورى، حيث كان حلمى هو أن أحقق عملاً إيجابياً من خلال الصحافة والسينما، أعبر عن شعبى وأكون أداة فى تغييره للأفضل، فأنا أنتمى للجيل الذى دخل المفرمة فى نقلة نوعية من عهد عبدالناصر إلى عهد السادات، منا من انهزم ومنا من أفلس ومنا من استسلم ومنا من تأقلم، وأنا أعترف أننى لم أستطع المقاومة أو الاستسلام، شعرت «بالزنقة»، بين قوى فاسدة وبين قوى رجعية ، وذلك كان فى وقت حرج بالنسبة لى كأب، رزقه الله بفتاة، لا أنكر أننى خفت عليها من أن تدفع ضريبة هجمة شرسة تمنعها من الطيران وممارسة الحياة فقط لكونها أنثى.. وكنت قد تحسست رائحة ذلك التيار الشرس يهجم على بلادنا.. فكان القرار الحاسم بالرحيل.. أو بمعنى أدق.. بالنفى.. وما أقسى أن تجبر نفسك على النفى من وطنك.
ولهذا عندما جاءت الثورة، كانت حدثاً جللاً، وكان مؤلماً لى أن أكون هناك ووطنى يولد من جديد، وقتها شعرت بالدين الحقيقى على عاتقى.. وتساءلت، ما هو دورى إذن وكيف أكون قادراً على فعل شىء إيجابى.
عدت إلى قريتك الصغيرة ولم تعد للعيش فى القاهرة.. لم كان هذا الاختيار؟
أجابنى بمنتهى الحسم قائلاً: لأننى أريد أن أشهد تغييراً حقيقياً فى الأرض البكر الخصبة، والريف المصرى محروم وعطشان، والشباب هناك ظلموا، ونحن من ظلمناهم لأننا - وأتحدث عن النخب بكل أنواعها - لم ننتبه للريف واحتياجاته، لم نصل إليه، لم نسمع منهم، لم ندخلهم فى مشاركة حقيقية ، فهناك فراغ سياسى وثقافى واقتصادى فى الريف، رغم كفاءة عناصره البشرية الإيجابية، وهذه هى مصيبتنا.. مصيبة سياسيين فاسدين وإعلام كاذب.. نخسر فى الانتخابات بسبب عدم وصولنا للريف ، مجتمعنا لا يشهد نهضة ثقافية، لأننا كنا سببا رئيسيا فى أن يجهل شاب ريفى ببيرم التونسى ونجيب سرور وأمل دنقل.. لو كان لدى هذا الشباب مفاهيم مغلوطة أو نمطية تفكير، فنحن السبب فى ذلك.. علينا أن ننقل إليهم التنوع الثقافى والاجتماعى، وكفانا الانعزال الذى لا تقوى به المجتمعات ولا البلاد.
ولأننى ابن قرية مصرية أشعر ما يشعرون به، الفارق الوحيد بينى وبينهم أننى قد أتيحت لى فرصة الخروج منها والاندماج بعوالم أخرى متنوعة، لم تتح للكثيرين منهم، وهذا هو الدين الذى أحمله على عاتقى وفى رقبتى.. لأنهم يستحقونه.
سألته: هذا تحد كبير.. وأكبر من أن يقوم به فرد، فما رؤيتك لتحقيق هذا؟
قبل أن يجيب مجدى قاسم، كانت لدى مشاهدة أو بمعنى أكثر دقة معايشة ذاتية، وهى دعوته لنا وتحديداً للدكتورة هدى زكريا على أرض قريتهم، والحقيقة أنه فعل بنا خيراً قبل أن يكون فعلها للشباب، وهذا المحور الأساسى الذى يتحرك به وهو التفاعل بين شباب القرية وبين آخرين من الصحفيين أو السياسيين أو علماء الاجتماع أو الفنانين، فكلاهما محتاج لمعرفة الآخر عن قرب، وهذا ما يخلق الجسور بين المجتمع.
وهذا ما يحلم به المواطن مجدى قاسم - كما يقول: «أحلم بخلق أرضية مشتركة للطاقة الحيوية التى فجرتها الثورة، بين أهل وشباب قريتى وبين شباب آخرين من نوع آخر من الشباب اختار أن ينزل إلى الميدان ويثور بطريقته، أحلم بأن يتعرض أهل قريتى، بل أهل الريف المصرى كله إلى تيارات مختلفة بعيدة عن التوتر والمشاحنات، لأننى أؤمن بالتنوع الثقافى الصحى.
مجتمعنا المصرى ثرى بطوائف وتيارات وأنماط واختلافات ومن حق كل مواطن أن يعيش ويختار فكره دون إعلان الحرب على الآخر.
من حق شباب قريتى أن يتعرضوا لنسيم وهواء الحرية. من حقهم التواجد على خريطة التغيير، من حقهم أن يملكوا حق تقرير مصائرهم، من حقهم نعمة الاختيار.
أهم ما فى حديث ورؤية مجدى قاسم أنه لا يتحدث عن أحلام رومانسية، لكنه يحمل مشروعاً عملياً، أعتقد أنه لو تم تطبيقه وتعميمه سننهض بالريف المصرى وبقواه البشرية نهضة نوعية عظيمة.
بشكل عملى يقول مجدى قاسم: قريتنا (بحطيط) ذات كثافة الأربعين ألف نسمة - قريبة من واحدة من أهم المدن الصناعية فى مصر وهى العاشر من رمضان، وهناك الكثيرون من شباب بحطيط يعمل هناك.. وهنا تكمن المأساة، حيث إنهم يعملون فى أحط أنواع العمل، مثل حمل الأسمنت والتراب، فى حين أن هناك أصحاب مصانع كبيرة يستعينون بعمالة من بنجلاديش يتقاضون رواتبهم بالدولار، وهذا يحدث بعد ثورة عظيمة ومازال يحدث، وما أتمناه وأحلم به هو أن ينتبه رجال الأعمال وأصحاب المصانع إلى الفائدة الأكبر التى يفيدون بها مجتمعهم ويستفيدون هم أيضاً بها أكثر، وذلك عن طريق إنشاء مراكز تدريب متواضعة فى القرى، وعلى سبيل المثال: بحطيط، لو تم عمل مركز تدريب حرفى مثل صناعة النسيج الرائجة فى مدينة العاشر من رمضان. وذلك بتوفير ماكينة قديمة يتم التدريب عليها من قبل أحد الفنيين لشباب القرية لمدة شهور بسيطة، وقتها سيستفيد صاحب المصنع ويفيد ويحقق جودة حياة للعديد من الشباب المشتاقين للعمل، مشتاقون لاستخدام وتوظيف طاقاتهم المعطلة.
أليس هذا أفضل من استيراد 200 عامل من بنجلاديش الذى يعنى فى ذات الوقت حرمان 002 بيت وأسرة من جودة وبديهية حياة كريمة؟! ألم أقل لك أننا المصريون علينا ديون كثيرة تجاه البلد لم نسدد فواتيرها ولا يصح أن نتجاهل الضريبة التى يدفعها هؤلاء الشباب بسبب أنانية الرؤية.
متحمساً يقول مجدى قاسم: أناشد كل رجال الأعمال وأصحاب المصانع أن يغيروا نمط التفكير ويوجهوا تفكيرهم بطريقة أخرى لن تضير بمصلحتهم شيئاً، بل بالعكس سنزيد مفهوم الرأسمالية الوطنية الفاعلة والفعالة والبناءة لطاقات بشرية معطلة.
كنت قد ذكرت لمجدى قاسم تجربة مصنع مرسيدس بألمانيا الذى يخصص قسماً للتركيب لوحدة ما من السيارة لا يقوم بها ولا ينفذها سوى ذوى الاحتياجات الخاصة وتحديداً ذوى الإعاقات الذهنية الذين تزداد كفاءة وعبقرية أدائهم الميكانيكى، مما حسن الإنتاج ووفر الوقت والمال لشركة مرسيدس.. وهذا هو الفارق الكبير بين رؤية عملية وعلمية وبين رؤية عشوائية.
فسر مجدى قاسم هذا قائلاً: بالفعل ما تقولينه صحيح لأن فى أمريكا وأوروبا هناك أمر شديد الخطورة اسمه «دور العلم ودور علماء الاجتماع وعلماء النفس ومتخصصو البيزنس» فى تحقيق الصالح العام، وكله يصب فى قنوات متصلة ببعضها، تخدم فى النهاية فكرة «تحسين جودة حياة البنى آدم»، تحسين جودة المواطن، صاحب البلد.
بهذه الروح يتحرك مجدى قاسم فى مشروعه التنموى.. حكى لى عن رغبته فى إنشاء مكتبة كبيرة فى قريته، وقد ذهب إلى المركز القومى للترجمة وعرض عليهم المشاركة وإهداء نسخة واحدة من كل كتاب من تلك الكتب المدعومة من الدولة لوضعها فى مكتبة القرية، لكن هذا العرض البديهى قوبل بالسخرية أكثر منه بالرفض.
وبمنتهى الصراحة قلت له: فليكن رهانك على الأفراد لا على المؤسسات فى تلك الفترة، وكم من كيانات عظيمة أصبحت وتألقت بفضل فكر أفراد جمعتهم رؤية مشتركة، لا اعتماداً على بيروقراطية خائبة معطلة ومستهلكة.
بصراحة.. كان الدافع الكبير المحرض على عودتك إلى مصر هو الثورة، فهل هناك سبب قد يحرضك يوماً ما للعودة إلى المهجر؟
بنفس الصراحة أجابنى: لا أجد محلاً له من الإعراب للسؤال.. لأننا فى منتصف طريق الثورة.. والثورة تأخذ عشرات السنوات كى تنضج وتؤتى ثمارها.. وأنا لست قصير النفس، وعلى قدر حبى لمصر، بقدر وعيى بالقوى السلبية التى تصد فى اتجاهات معاكسة لأى تطور.. ورغم الهزائم المرحلية.. إلا أننى واثق من الانتصار ومن بناء منظومة جديدة سيسجلها التاريخ الإنسانى.. وستحسب فى النهاية لمصر.
وأخيرا.. لدى يقين بأننا سنكون وفق ما نفكر به.. فإذا فكرنا وراهنا على انتصار مصر وصدقنا أنها تستحق النصر العظيم هى والكثيرون من أصحاب البلد الذين يستحقون العيش والحرية والكرامة الإنسانية.. سيكون النصر مصيرنا.