فى أماكن بعيدة أو حتى قريبة بين أرجاء هذا الوطن، يعيش مواطنون لا يعلم النظام عنهم شيئاً، لا يعرفهم ولا يحسبهم مواطنين إلا عندما يحتاجون إلى أصواتهم وأعدادهم وأرقامهم، ولقد انكشفت لعبة الإخوان الدنيئة. شباب يعيش فى مجتمعات شبه معزولة، حتى أحلامهم تكاد تكون منفية فى زمن المتاجرة بالأحلام وبالشباب.. لديهم رؤى ولديهم الكثير من مساحات الراى التى لا يعرفون طاقة تنفس لها سوى آذان بعضهم البعض، حتى أصبح الصمت فى كثير من قرى مصر هو سيد الموقف لا تخاذلا، لكنه منطق العقلاء، لماذا أتكلم.. إن لم يكن هناك من يسمع أو حتى يفهم؟ فى قرية بحطيط بالقرب من مركز أبوحماد - بلبيس- الشرقية، ذهبت إليهم وكانت بينهم ومعهم الأستاذة الدكتورة هدى زكريا أستاذ علم الاجتماع السياسى، لا فى إطار ندوة أو محاضرة، ولكن فى إطار التواصل الإنسانى والفكرى مع شباب يستحقون أن نصل إليهم ونستمع إليهم.
موضوعات كثيرة جمعت بين بعض من شباب بحطيط وبين د. هدى زكريا، فتحوا قلوبهم وعقولهم، تحدثوا عن شعور بالإحباط بأنهم على الهامش، لا أحد يعرف حقيقة ما يريدونه رغم بساطته وبديهية أحلامهم، يتحدث أحدهم عن شعوره بالخديعة وبالخيانة من رئيس الجمهورية، فقال أحمد: أنا أعطيت صوتى لمرسى، وندمت، عندما أكتشفت الكذب والمراوغة والمتاجرة بالشعب كله، أنا أعمل فى جهاز حكومى، وللأسف أنا على يقين أن تلك الأجهزة، وبالتالى الحكومة لا تريد التغيير ولا التطوير، هم نفس التروس فى نفس ماكينة الفساد والظلم واللامبالاة، حتى وإن ادعى البعض أنهم يسمعون إلينا، والدليل أنه لا شىء يحدث على الإطلاق سوى تدهور الأوضاع من سيئ إلى أسوأ.
ويضيف أحمد: حتى أحزاب المعارضة لا تعنينى، لأن الحزب الذى لا يعرف كيف يصل إلى فى قريتى، فهو لا يلزمنى، لأنه على المدى البعيد لن يخدمنى ولن يعرف عنى شيئاً.
وبحماس شديد معجون بيأس غاضب: «علشان كده، لا رئيس الجمهورية يلزمنى ولا المعارضة تلزمنى، إن ماكانش يحسوا بنا وبأبسط حقوق الحياة اليومية»!!
لهذا لن أذهب إلى الانتخابات!
تدخلت الدكتورة هدى زكريا - التى دائماً تدهشنى بطرحها الاستثنائى - غير المستهلك، دائماً لديها رؤية أكثر عمقاً واتساعاً والأهم أنها أكثر تفاؤلاً.. ذلك التفاؤل المعتمد على الوثائق الاجتماعية والثقافية والتاريخية من نسيج هذا المجتمع فأجابت أحمد: اطمئنك يا أحمد.. لأن اللعبة السياسية التى يلعبونها الآن لعبة لسنا طرفاً فيها، أتحدث عن جموع الشعب غير الظاهرين والواضحين فى المشهد، مثلك ومثلى ومثل ملايين المصريين يعيشون فى محافظات وقرى ونجوع وعشوائيات مصر، ومنشغلون بتفاصيل الحياة، لا باللعبة السياسية.. هم الكتلة الصلبة، هم المجتمع الحقيقى الذى لن تستطيع جماعة ما تفتيتها أو تكسيرها، وهذا ليس تفاؤلاً ولكنه قراءة موضوعية فى التاريخ الاجتماعى لمصر. وأضافت: عارفين ليه ؟
لأن الشعب المصرى فى حقيقة الأمر شعب شديد السلمية «مش بتاع خناقات»، هو عاوز حقه وبس، ولهذا فإن حكام البلد غير مستشعرين بالقوة الحقيقية للشعب الحقيقى «اللى مش طالع على شاشات التليفزيون».. وهم بجهلهم «جهل الحكام والسياسيين» غير مدركين أن هذا الشعب بكتلته الكبيرة هم الذين سيحددون مصير مصر.
سألت الدكتورة هدى: تعرفوا الحجاج بن يوسف الثقفى؟
أجاب أغلبهم.. نعم .
حكت د. هدى قائلة: كان طاغية، أراد أهل العراق أن يضربوه فى المسجد فعندما دخل عليهم ونظر إليهم نظرة غاشمة، وقع الطوب من أيديهم.. فقال جملته الشهيرة تاريخياً: إني أرى رؤوساً قد أينعت وإني لقاطفها!!
هل تعلمون ماذا قال الحجاج عن مصر عندما قال له طارق بن عمرو أن أمير المؤمنين ينوى منح طارق الولاية على مصر ، فحذره «الثقفى» قائلاً:
«إذا ولاك أمير المؤمنين على مصر، فعليك بالعدل.. فهم أى المصريين».. قتلة الظَلمة وإذا جاءهم قادم بخير التقموه كما تلتقم الأم رضيعها.. وإذا جاءهم قادم بشر لا يتركوه إلا وقد أحرقوه كما تحرق النار الحطب، فلا تستضعفهم، فهم أهل جلد وصبر وتحمل، فاستقوى بهم، فهم خير أجناد الأرض..
وإذا قاموا على نصرة رجل ما.. ما تركوه إلا والتاج على رأسه، وإن قاموا على رجل ما.. وما تركوه إلا وقطعوا رأسه.. فاحذر من ثلاثة: «أرضهم ونسائهم ودينهم»
إذا اقتربت من نسائهم.. أكلوك كما تأكل الأسود فرائسها.
وإذا أقتربت من أرضهم .. حاربتك صقور بلادهم.
وإذا أقتربت من دينهم.. أحرقوا عليك دنياك.. فهم صخرة فى جبل كبرياء الله.. تتحطم عليها أحلام أعدائهم!!
كان الشباب مندهشاً ومستمتعاً - وأنا معهم - بتلك الوثيقة التاريخية الرائعة والتى تدل على أن هذا الشعب لا يمكن استضعافه وأنه لن يستغل ولن يستخدم، فلا تستهين به، ولا بنفسك، وأنت من أصحاب هذا البلد.
قال أحد الشباب: وماذا نفعل إن كنا لا نريد حكم الإخوان ثانية، لابد أن يجتمع الناس على رفضهم فى الانتخابات، لكن المشكلة أن المعارضة والكتلة المعارضة غير موحدة مثلهم ؟
قالت الدكتورة هدى: لابد أن نكون على يقين بأن أساس فكرة الانتخابات غير عادلة، ولهذا فالصندوق ليس دليلاً على توافق الشعب عليهم كما يدعون، لأنه فى الأساس، شروط عدالة المنافسة غير متاحة، بمعنى، هل يجوز أن أطلق أسداً وغزالاً وحماراً وحشياً فى ساحة حول فريسة وأقول لهم: «فلتتنافسوا على الفريسة، ومن يحصل عليها يصبح هو الفائز» ؟
هذا منطق «الندالة»، لأن «العدالة» فى ميزان القوى والتكافؤ غير متوفرين.
قال محمد، المشكلة أن الأمور الآن زادت تعقيداً، فهم يدفعون الشعب بغبائهم وظلمهم إلى العنف، ولهذا فإن مشهد الدم المتكرر يشعرنا أنهم سرقوا الثورة وركبوا على حكم مصر وضاعت حقوقنا؟
بهدوء أجابته الدكتورة هدى: يا محمد.. لا تعتقد أن الثورة انتهت، نحن مازلنا فى خضم الثورة، وهذا هو ما يعتقده خطأ بعض الناس، أن الثورة هى الثمانية عشر يوماً فى التحرير وميادين مصر، غير صحيح.. الثورة سنوات ودرجات ومحطات.. وطبيعة الثورات أن يركب عليها أصحاب مصالح وكل منهم يريد أن يلتهم قطعة من التورتة، والثورة الفرنسية على سبيل المثال.. لم يقطعوا رأس لويس إلا بعد ثلاث سنوات، وامتلأت عنفاً لدرجة الحكم بقطع الرقاب.
وعلى سبيل المثال عندما جاء «روبيسبير»، وكان يأمر بقطع رقاب فلان وفلان وفلان .
بعد ثلاثة أسابيع.. كان هناك شخص آخر يحكم وقد أمر بقطع رأس «روبيسبير».. وبعد حمام من الدماء.. ماذا حدث؟
ارتمت فرنسا فى حضن «الجيش»، فى حضن ضابط صغير اسمه نابليون بونابرت.
سألها شاب بشكل مباشر: هل هذا معناه أن الذى سيخلصنا من الإخوان هو الجيش ؟
بحسم شديد قالت الدكتورة هدى: التاريخ هو الذى يقول، وعلينا دراسته جيداً.. من هى القوى الوحيدة المنظمة والممنهجة والأقوى من الإخوان ؟
قال بعضهم: الجيش .
وقاطعت برأيها: ولا أحب أبداً ان يقول أحداً لفظ العسكر على الجيش لأنها مهزلة أن نشبه جيشنا بعسكر المماليك.. فتكوين الجيش المصرى من قلب البلد وله أرضية وطنية عميقة الجذور، ولكن أرضية الجيش فى أوروبا مثلاً كانت لخدمة الحاكم، أما الجيش المصرى فموجود فى كل أسرة مصرية، لأنه جهاز مناعة مصر.
قال أحدهم «من الشباب».. فعلاً الجيش هو القادر على إحكام البلد؟
ردت الدكتورة هدى: خلى بالك.. لا أحب أبداً أن نكون من الذين يفكرون بطريقة «أصل البلد دى ما ينفعش تمشى غير بالكرباج».. هل تسمعون مصريون يتحدثون عن أنفسهم وعن مصر بهذه الطريقة الرخيصة؟!!
أكملت: إياكم والدونية من مصريتكم وقوتكم... الشعب المصرى عنده خاصية محدش عرف يقراها صح - حتى المؤرخين أنفسهم الذين انشغلوا بكتابة واقعة أو حادثة فى التاريخ ولكن لم يوثقوها اجتماعياً وثقافياً، هذا هو الأخطر.
واستدلت د.هدى زكريا بالهكسوس.. قائلة.. الجملة فى التاريخ مكتوبة كالتالى:
- دخل الهكسوس مصر، ثم انتصر المصريون على الهكسوس بالعجلات الحربية بفضل أحمس»!! أليس صحيحاً ؟!
∎ هذا المؤرخ لوكان بذل مجهوداً أكبر ليعرف الأشباب والأطفال من هم المصريون، لكن أدرك ونقل وكتب بمنتهى الأمانة، أن الهكسوس انتصروا عسكرياً وقاموا بغزوهم ودخلوا مصر.. ولكن المصريين كانوا الأقوى..
كان العسكرى من الهكسوس يسير فى شوارع مصر يتحدث إلى المصرى، فلا يرد عليه المصرى، لأنه لا يفهمه ويرفض أن يحاول التواصل معه.. فاضطر الهكسوس إلى تعلم العربية حتى يتمكنوا من مواصلة الحياة فى مصر، ولم يتعلم المصريون «لغة الهكسوس».
- كان الهكسوس يلبسون أزياءهم، فكان ينظر إليهم المصريون باستنكار، فقلد الهكسوس المصريين فى أزيائهم ولبسوا مثلهم..
∎ من يحكم من ؟
- الهكسوس انتصروا عسكرياً، لكن المصريين انتصروا اجتماعيا وثقافياً ..وكان خلال هذا الانتصار كان أحمس والجيش يجهز للعجلات الحربية التى أبادت الهكسوس.
سألت الدكتورة هدى زكريا الشباب: هل تعرفون من المنشغل حقيقة بفهم التاريخ المصرى وتحليل تفاصيله الاجتماعية والثقافية ؟
- وأجابت: للأسف إن أعداءنا منشغلون أكثر منا بهذا الفهم.. لكنه آن الأوان أن نعرف أننا شعب غير عادى، وقضيتنا هى الوسطية والاعتدال والتوازن والتكيف والسلام بيننا، لسنا شعباً بتاع خناقات ودائماً نعلن للخصم أو المعارض حكمتنا وهى:
«بينى وبينك البلد.. عاوز الخير.. تعالى قابلنى فى منطقة الخير المشتركة»، وهذا ما لا يفهمه الكثيرون ممن يحكمون مصر الآن، لأنه جاء فى المنطقة الخطر وأراد أن يشتبك مع المصريين فيها وهى مسألة الدين.
تحكى الدكتورة هدى للشباب قائلة: «عارفين يا شباب».. أوروبا جاء لها دين واحد، أخذوا يذبحون بعضهم البعض ويتصارعون حرقاً وقتلاً 130 سنة بين البروتستانت والكاثوليك.
∎ أما مصر فجاءتها ثلاثة أديان فى وقت واحد.. ماذا فعلوا؟
تقول: عارفين؟!.. أثناء إعداد دستور ,2291.كانت اللجنة التأسيسية «محترمة آنذاك» مكونة من 03 فرداً، 12 مسلماً و6 مسيحيين و3 من اليهود، ووقتها قال مكرم عبيد لسعد زغلول ..ولم يهود فى اللجنة، فأجاب سعد زغلول قائلا: أليسوا مصريين ؟!!
هى دى مصر.. لأن الدين عندنا فى مصر ليس خناقة ، قبل الميلاد ب2000 سنة، كان المصرى- بطبيعته- مؤمناً ويصلى، وكان هيرودوت يتعجب لهذا الشعب الذى يصلى وثلث سكانه من الأجانب ..لأن هذه هى مصر ، التى تضع كل من يريد التعايش فيها ومع المصريين فى اختبار شديد البساطة والصعوبة فى نفس الوقت ، فمن أحبنا أصبح من المصريين ومن كرهنا وأراد لنا الأذى.. طبق عليه ما قاله الحجاج ابن يوسف الثقفى.
ولهذا تجد حتى أمثالنا الشعبية توثق القاعدة التى يعيش بها المصريون: «من حبنا حبناه وصار متاعنا متاعه، ومن كرهنا كرهناه ويحرم علينا اجتماعه».
هل تتذكرون الحاوى منذ سنوات عندما كان يمر تحت بيوت المصريين، ماذا كان يقول: ( موسى نبى، عيسى نبى، محمد نبى.. وكل من له نبى... فإذ بالمصريين يردون: يصلى عليه).. هذا معناه عظمة التعددية والسماحة والتسامح الاجتماعى.. فلم يكن يشغلنا تصنيف الناس واسم ديانتهم، من أراد أن يستخدم هذا الكارت سيحرق به.. لذلك أنا مطمئنة تماما على مصر.
كان الإخوان جماعة قوية قبل دخولهم الحكم وقبل انشغالهم بالتهام التورته، وقتها سقطت ورقة التوت، وعندما يتحدثون فى صلب الدين والقرآن تكتشف جهلهم وفضيحتهم، لأنهم حقيقة الأمر ليسوا منشغلين بالدين، إنما هم منشغلون بالسلطة والسياسة والرغبة فى الاستيلاء والسيطرة.
وأخيراً... الخطر ليس على مصر من جماعة بعينها، ولكن الخوف على الجماعة نفسها، لأنهم جهلاء بهذا الشعب وبتاريخه الاجتماعى، وسيسجل التاريخ.