على الرغم من أن مفهوم (العدالة الانتقالية) ظهر فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، فإن حضوره تكثف بشكل خاص منذ سبعينيات القرن العشرين، فمنذ ذلك الحين شهد العالم أكثر من 30 تجربة للعدالة الانتقاليةوقد طرحت لجنة حقوق الانسان بمجلس الشورى مصطلح العدالة الانتقالية وأكد أعضاء اللجنة يهدفون إلى ترويج المصطلح عبر وسائل الإعلام وطرحه للرأى العام مؤكدين أن العفو من مبادئ الشريعة الإسلاميةومع عودة هذا المفهوم للظهور من جديد - مع ثورات الربيع العربى- بات من الضرورى العمل على فهم واستيعاب ما يعنيه هذا المصطلح، خاصة إذا ما أخذنا فى الاعتبار حالة الغموض التى تكتنف المقطع الثانى من المصطلح؛ وأقصد هنا «الانتقالية»، إذ يثور السؤال: هل توجد عدالة انتقالية؟ وما الفرق بينها وبين العدالة التقليدية ؟! وهل يمكن أن نطلق - تجاوزاً- تعبير (الفريضة الغائبة). مما لاشك فيه أن العدالة الانتقالية تختلف عن العدالة التقليدية فى كونها مختصة بالفترات الانتقالية مثل: الانتقال من حالة نزاع داخلى مسلح إلى حالة السلم أو الانتقال من حكم سياسى تسلطى إلى حالة الحكم الديمقراطى.. إلخ وكل هذه المراحل تواكبها فى العادة بعض الإجراءات الإصلاحية الضرورية سعياً لجبر الأضرار لضحايا الانتهاكات الخطيرة التى جرت قبل المرحلة الانتقالية، أى أنها تكييف للعدالة على النحو الذى يلائم مجتمعات تخوض مرحلة من التحولات فى أعقاب حقبة من تفشى انتهاكات حقوق الإنسان؛ وبعبارة أخرى يربط مفهوم العدالة الانتقالية بين مفهومين هما العدالة والانتقال، بحيث يعنى تحقيق العدالة أثناء المرحلة الانتقالية التى تمر بها دولة من الدول.
∎ المغرب خير مثال ولعل التجربة المغربية كانت خير مثال - فى عالمنا العربى- على الرغبة فى الأخذ بهذا المفهوم والعمل على تطبيقه، وأذكر أننى خلال زيارتى للمغرب فى صيف عام 2001 - ولم أكن أدرك وقتها ما يعنيه هذا المفهوم- مصاحبا لمنتخبنا الوطنى لكرة القدم لتغطية فعاليات المباراة الحاسمة أمام المنتخب المغربى فى إقصائيات كأس العالم 2002، وخلال حفل أقامته إحدى الصحف لتكريم نجوم الكرة العربية بأحد فنادق الرباط، أتيحت لى الفرصة لمتابعة ندوة اكتشفت أنها لأحد ضحايا ( سنوات الجمر أو الرصاص) - كما يطلق عليها فى الأدبيات المغربية ،والتى شهدت تنكيلا بالمعارضين لنظام الملك الراحل الحسن، وهذه الندوة ما هى إلا جزء من منظومة متكاملة أتاحها الملك الشاب محمد السادس لضحايا هذه الفترة للحديث عن هذه المرحلة الصعبة، بل محاكمة جلاديهم والحصول على تعويضات من الحكومة المغربية من خلال هيئة (الإنصاف والمصالحة)، وهى تجربة ارتبطت بشكل أساسى بتوفر إرادة سياسية شكلت أرضية للإصلاحات التى انخرط فيها المغرب، بل إن بعض المراقبين يرون أن القيمة الأساسية التى تميز التجربة المغربية إشراك المعارضة وفتح ملفات الانتهاكات وتعويض الضحايا.
∎ شكلاً لا مضموناً وبسؤال د. سمر يوسف سعفان.. مديرة (منتدى الحوار والمشاركة من أجل التنمية) عن إمكانية تطبيق العدالة الانتقالية فى مصر، قالت: «عرف التاريخ السياسى لمفهوم العدالة الانتقالية فى فترات التحول الديمقراطى للأنظمة السياسية، وتمثل أهم عناصرها فى الملاحقات القضائية، جبر الضرر، إصلاح المؤسسات، ووسائل التحقق من المعلومات.. وعند تتبع عناصر العدالة الانتقالية فى مصر نجد أننا قد نكون ركزنا عليها شكلاً فقط لا مضموناً، فنجد أن عدم تحديد تعريف واضح لمن هم مرتكبو جرائم الثورة يؤدى بالضرورة إلى دخول القضاء فى متاهة المحاكمات ونجدنا فى فزاعة البراءات، لأننا لم نحدد بعد من هم مرتكبو الجرائم، وبالتالى تفقد أهم عناصر العدالة الانتقالية لفعالياتها، وهى الملاحقات القضائية».
وأضافت:«أما (جبر الضرر)، فوجدنا جميع حكومات ما بعد الثورة تعترف بالأضرار وبالجرائم التى ترتكب ضد الشعب، ولكنها أبداً لم تضع خطوات لمعالجة تلك الأضرار، سوى دفع التعويضات المالية لأسر الشهداء والمصابين، أو مانسميه فوضى التعويضات وتأخرها وسوء تقديم خدماتها، وذلك نتيجة عدم تكوين هيئة أو مجلس فاعل معه كل الصلاحيات لسرعة إنجاز مهام الرعاية الصحية للمصابين والتعويضات الناجزة للشهداء، وحين ننتقل إلى إصلاح المؤسسات، فإن كل مفردات اللغة تعجز عن وصف التأخر الرهيب فى تقديم آليات لإصلاح المؤسسات وليست قرارات بتغيير أوجه الشخوص وإحلال رجال النظام الجديد محل رجال النظام القديم دون تغيير حقيقى فى السياسات واللوائح الداخلية ومن ثم حدث تدهور للمؤسسات وانهيار لأدوارها الحقيقية.. وهو ما ينقلنا مباشرة لوسائل التحقق من المعلومات التى تاهت بين جنباتها المعلومات والحقائق، فقد فقدت كل لجان تقصى الحقائق - التى تعد من أهم أشكال وسائل التحقق من المعلومات - القدرة أو قل لم تتمكن من جمع الأدلة لإنصاف الضحايا، وهو ما يعنى أننا نتخذ (شكلاً) عناصر العدالة الانتقالية وليس (موضوعاً)، بل إن الواقع الفعلى يؤكد أن الدولة المصرية انتقلت بشكل حقيقى من نظام مستبد إلى نظام أكثر استبداداً وعنفاً وجهلاً بأدوات الدولة الرشيدة وإهداراً لمقومات العدالة الانتقالية فى مرحلة انتقالية قد تستمر طويلاً».
أما الناشط الحقوقى والمحامى سعيد عبد الحافظ فأوضح أن الوضع الحالى فى مصر لا يسمح بتطبيق منهج العدالة الانتقالية كإحدى الآليات الرئيسية فى القصاص من مرتكبى الجرائم ضد المواطنين، وأنه إن لم تتوافر الإرادة السياسية الحقيقية لمحاسبة رموز النظام السابق بشكل جدى عن الجرائم التى ارتكبوها فلا أمل فى هذا النوع من العدالة، مؤكدا أنه «لايمكن تحقيق العدالة الانتقالية فى ظل مجتمع يعانى من ضعف وتردى مؤسساته، فضلا عن انفلات أمنى واضح فى ظل عدم رغبة أو عدم قدرة الجهاز الشرطى على العمل لتحقيق الأمن»،متسائلاً:
كيف يمكن تحقيق العدالة الانتقالية فى ظل أزمة مالية طاحنة ووضع اقتصادى متدهور؟. ولعل أهم شروط تحقيق العدالة الانتقالية - إذا أردنا - هى الإرادة السياسية وهى لازمة لإصدار القوانين اللازمة وتفعيل عمل مؤسسات الدولة.. وسيادة القانون، وذلك بالبعد قدر الإمكان عن القوانين الاستثنائية وقانون الطوارئ، والعمل على استقلال السلطة القضائية، وهو من الضروريات لتفعيل العدالة الانتقالية وأخيراً لابد من تشكيل محكمة متخصصة لمعاقبة جرائم النظام السابق ورموزه للتغلب على ظاهرة بطء إجراءات التقاضى فى مصر؛ لأن القانون الجنائى المصرى لا يعرف مثل هذه الجرائم ولا يعاقب عليها.
∎ العدالة الانتقامية!
ويشدد ناصر أبو العيون.. رئيس مجلس إدارة (جمعية حقوق الإنسان) بأسيوط على أن العدالة الانتقالية لا تعنى أبدا الثأر والانتقام، ولكنها تعنى الوصول إلى حل وسط بين الحاكم والمحكوم، بين مرتكب الانتهاكات وضحاياه، لإعادة بناء وطن للمستقبل يسع الجميع قوامه احترام حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون، مضيفاً:«أخشى أن يكون ما سمعناه منذ فترة عن نية مجلس الشورى فى إصدار قانون للعدالة الانتقالية هو تجسيد لرغبة إخوانية فى الانتقام ،لكن التعجيل بإصداره سيساهم بشكل كبير فى تصحيح مسار الثورة ليس هذا فقط، ولكنه سيحقق أيضا أحد أهم أهداف الثورة الثلاثة وهى العدالة التى نرجوها».
أما صفاء على حسن، الناشطة الحقوقية والمدير التنفيذى للجمعية الوطنية للدفاع عن الحقوق والحريات NADRF فتؤكد أن الأممالمتحدة وضعت تعريفاً للعدالة الانتقالية يقول (كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التى يبذلها المجتمع لتفهم تركة من تجاوزات الماضى الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة)، أى أنها منظومة من القرارات التى يتخذها المجتمع والدولة بهدف تحقيق الاعتراف الواجب بما تكبدته الضحايا من انتهاكات ومحاسبة مرتكبيها، مضيفة: «ويستطيع القراء من خلال هذا التعريف أن يحددوا وضع مصر من تطبيق العدالة الانتقالية.. فالإجابة مفتوحة على كل المستويات، خاصة من أهالى وأسر الضحايا».