استوقفنى منظر أفراد الأمن المركزى فى ملابسهم الخفيفة وهم يجلسون بجانب بعضهم على الرصيف يحاولون أن يدفئوا بعضهم بعضا ويسترقون لحظات من الراحة ليشربوا كوبا من الشاى بعد أن أكلوا طبقا من الكشرى وهم يلتقطون أنفاسهم من رائحة الغاز المسيل للدموع التى تظهر فى احمرار أعينهم التى لاتتوقف منها الدموع وعلى الجهة الأخرى تجمع الضباط وهم يتناولون الكباب والكفتة..!! كتبت عليهم الظروف أن يعيشوا مهانين ويطيعوا الأوامر من قائدهم حتى لو كانت هذه الأوامر هى ضرب إنسان مثلهم دون رحمة.. فهؤلاء الأفراد مبرمجون ينفذون ما يطلب منهم دون تفكير أو اختيار .. فهم يقومون بغسيل أدمغتهم.. ويقنعونهم بأن من يضربونه أو يقبضون عليه ويهينونه هم أعداء الوطن وأعداؤهم.. يجعلونهم يقفون فى الصفوف الأمامية.. فنحن كمواطنين ننظر لهم على أنهم قتلة و مجرمون لا رحمة فى قلوبهم ولا يوجد لديهم أى شعور بالإنسانية لكن من ينظر بداخلهم يجد إنساناً بسيطاً أغلب من الغلب.. منهم الفلاح ومنهم العامل البسيط.. ومنهم من تعلم ومنهم من لم ينل هذه الفرصة.. اقتربت من مجموعة من العساكر محاولة أن أتحدث مع أحد منهم بعد ما علمت أن الحديث معهم ليس سهلا و يجب أن يكون بتصريح.. فبحثت عن حجة كى أتحدث معهم وهى أننى ذهبت واشتريت لهم وجبات ساخنة لعلمى أنهم محرومون منها .. فأخذوه بترحاب شديد وفرحة.. و شكرونى عليها.. وهنا بدا الحوار بينى و بين محمد الشاب المنصورى المجند بالامن المركزى كان جالسا على الرصيف بجانب زملائه.. منهك.. متعب .. جسمه هزيل شديد النحافة.. أسمر.. لكننى لم أستطع التحقق من لون عينيه من شدة احمرارهما.. بدأت معه الحديث فلم يحاول الوقوف.. ليس عدم احترام بل ألم وتعب وإجهاد فسألته: ∎ أنتم بتاكلوا و بتشربوا إزاى وبتاكلوا إيه كل يوم يا محمد ؟ - والله زى ما بترزق.. ساعة بنجيب طبق فول ونتشارك فيه.. وساعة زى النهاردة ربنا بيكرم وناس طيبين زى حضرتك يحنوا علينا وساعة بنجيب كل واحد طبق كشرى وده لما بنبقى جعانين قوى.. أما بالنسبه للشرب فبندخل أى جامع و بنشرب منه أما بالنسبة لباقى التساهيل فالشارع موجود!! ∎ الأكل ده على حسابكم ولا من الداخلية ؟ - ظل صامتا للحظات وكأنه يفكر بماذا يرد.. ثم رفع رأسه ينظر لى قائلا.. ساعات كده وساعات كده.. بس غالبا إحنا اللى بنجيب الأكل على حسابنا!! ∎ بتناموا كم ساعة فى اليوم؟ - يدوب هما ساعتين أو 3 ساعات فى البرد و بنخطفهم كمان..!!! ∎ طب و بتقدروا تكملوا الشغل ازاى و خصوصا فى الظروف اللى احنا فيها دى؟ - ينظر لى مبتسما و يقول: والله ما أنا عارف يا استاذه!!! ∎ مرتبك كام فى الشهر؟ - تتسع ابتسامته قائلا.. بناخد 002 جنيه فى الشهر.. و فى حالة الطوارئ يصرفون لنا 5 جنيه بدل!!!! ∎ وبيقضوك؟ - لا طبعا.. دول ميجوزوش عريس.. ∎ طيب بتعمل بيهم ايه ؟ - ببعت نصهم لأمى فى البلد تحوشهم لى عشان لما انزل فى الإجازة ألاقى نفسى عامل مبلغ واتجوز بقى.. و ده فى حالة الرجوع أما بقى لو مت هنا فى المظاهرات تصرفهم على إخواتى!!! ∎ بتروح بلدك كل قد ايه؟ - المفروض كل 82 يوم.. لكن من ساعه ما الثورة قامت.. ما سفرتش لهم خالص!!! ∎ كنتم مرتاحين أكتر قبل الثوره ولا بعدها ؟ - لا طبعا كنا مرتاحين قبل الثورة بكثير.. احنا دلوقتى خايفين و مرعوبين مش عارفين ايه اللى بيحصل.. مش عارفين هنعيش بكره ولا لا.. أنا مش عارف هشوف اهلى تانى ولا خلاص كده!!! ∎ بتتعاملوا إزاى مع الناس بعد ما فقدت الثقة بكم ؟ - الحمد لله المعاملة بينا دلوقتى بقت أحسن بكثير عن الأول!! ∎ إزاى و استفزازكم للثوار وقيامكم بعمل إيحاءات غير أخلاقية لهم ؟ - بالعكس دول هما اللى بيستفزونا و بيضربونا كمان بالرش!!! ∎ وايه هو الرش ده؟ - ده زى السلاح و بيخرج منه بلى صغير.. ولو واحدة جت فى العين بتصفيها!!! ∎ زى إللى الضباط كانوا بيرشوا على عيون الشباب فى الثورة؟ - صمت قليلا ورد فى ارتباك.. ماعرفش حاجة عن الموضوع ده كل اللى أعرفه إن إحنا بنضرب الناس اللى عايزه تخرب البلد!!! ∎ مش حاسس إنكم بتضربوا شباب زيهم زيكم.. نفسهم يتجوزوا وبيطلبوا طلبات تفيدكم أنتم كمان ؟ - نظر لى وكأننى قلت شيئاً محرماً.. ثم قال.. يا انسة العيال دى بتخرب البلد وواجبنا نوقفهم ح دول مابيخافوش من الضابط بتاعنا الكبير وقلالات الحيا.. الضابط يشتمهم يشتموه.. ويحدفونا بالطوب كمان.. نرش قنابل الدموع.. يردوها علينا.. الضابط بيقول عليهم عيال صايعة وعايزة تتربى!!! ∎ بعد ماتخلص الخدمة هتعمل ايه؟ - هرجع بلدى وأتجوز وأقعد فى القيراطين اللى حيلتى و مش هخرج منهم أبداً!!!