عمال التراحيل أول من طرق باب الرئيس محمد مرسى.. ذهبوا إليه يحملون آلامهم لعلهم يجدون متنفسا مطالبين بتأمين صحى شامل ونقابة مهنية، يضع أزميله والشاكوش وقطعة من الخشب أمامه على الأرض ويجلس القرفصاء ناظرا لأدواته فى تمنى أن يلتقطه أحد المارة وأن يفتح الله عليه باب رزق، أن تدخل جيوبه ولو بضعة جنيهات. يحلم بزوجته وأولاده الذين تركهم فى بلدته بمحافظة الفيوم ويتمنى أن تحتضن ذراعاه ابنته الصغيرة.
قطرات العرق تتساقط من جبينه يلتقط أنفاسه بالكاد وبين أصابعه المتعرقة يتصاعد دخان سيجارته سألت عم فرج محمود 50 عاما عن أحوال عمال التراحيل فرد قائلا: منذ أكثر من شهرين لم أر أولادى وتسألين عن أحوالنا لقد توقف كل شىء كما توقفت الحياة فى مصر، من معه أموال لا يريد أن ينفقها يدخرها لأنه لا يعرف ما يخبئه الغد له لذلك قد قل العمل جدا وتزايدت أعدادنا بعد ثورة ليبيا.. فليبيا كان يوجد بها الكثير من العمال ممن يعملون فى النقاشة والبناء والدهان وكانت سوق ضخمة تستوعب الكثير وبعد الثورة رجعوا حفاة الأقدام لا يملكون شيئا رجعوا ليبحثون عن رزقهم فى بلدهم وأكمل قائلا لم أرجع إلى بلدتى منذ أكثر من شهرين ولم أعمل خلال الشهرين إلا 02 يوم فقط كنت أعتقد أنني قادر على كسب المال ولكن الظروف فى القاهرة أصبحت صعبة جدا وأول من يتضرر منها هو العامل البسيط الذى يبحث عن قوت يومه ولا يدخل جيبه غير مصروف يوم بيوم.
مجدى محمود 30عاما ما أن اقتربت منه وقبل أن أقول أى شىء بادرنى قائلا: (أتريدين عاملا.. لن نختلف على الأجرة) وعندما قلت له أنى لست دكتورة ولكنى صحفية وأقوم بكتابة موضوع عن عمال التراحيل لمحت فى عينيه نظرة إحباط وقد اكتشف أنه خسر اليومية التى كان يعول عليها آمالا عريضة فابتعد عنى خطوات وجلس على الأرض قائلا: وما فائدة أن تكتبى عن مشاكلنا ولا يشعر بنا أحد فنحن منذ عشرات السنين نعمل باليومية فأنا أعمل منذ أن كان عمرى 6 سنوات كنت آتى مع أبى للقاهرة لأساعده فى رفع الرمل أو خلط الدهانات وعام بعد عام تعلمت الصنعة ولكنى بقيت عاملا بالأجرة بدأت أجرتى من بضع جنيهات وتزوجت وأنجبت وسافرت إلى ليبيا للعمل هناك ولم يمض عامان حتى قامت الثورة الليبية ورجعنا أنا وآلاف المصريين من العمال كى نبحث عن عمل فى مصر حاولت أن أعمل فى عدة أماكن فى بلدتى ولكن فشلت لأن صنعتى الوحيدة التى أجيدها هى الدهان ومع تدهور الوضع فى مصر أصبح من الصعب أن تكون هناك مبانى جديدة بشكل كبير لذلك فنحن ننتظر الفرج من الساعة السابعة صباحا وحتى غروب الشمس أيام يجبر خاطرنا وأيام أخرى ننام بدون عشاء.
سألته عن يوميته فقال يوجد شبهة أتفاق وإجماع بيننا نحن العمال على أن يوميتنا هى 60جنيها مهما كانت الأعمال التى سنقوم بها معظم الزبائن تحب الفصال ولكن إن كان العمل شاقا فأنا لا أرضى بأقل من 06 جنيها وإذا كان عملا خفيفا فمن الممكن أن أتقاضى 50أو 40جنيها ولكننى لا أعمل طوال الشهر فأحيانا نعمل 15يوما فى الشهر وأحيانا اقل ولكن بالطبع هو مقسم بين إيجار الحجرة التى أسكن بها وبين مصاريف الطعام والدخان وبالطبع لابد أن أرسل لزوجتى وأمى وأولادى المال.
وعن المكان الذى يسكن فيه قال نحن عمال التراحيل نسكن فى حجرات قريبة من المناطق التى نعمل بها فعمال تراحيل مدينة نصر والذين يتواجدون عند آخر شارع عباس العقاد أو عند ميدان فى الحى العاشر يسكنون فى حجرات صغيرة فى منطقة «التبة» بمدينة نصر يبلغ سعر إيجار الحجرة شهريا 160جنيها وقد يؤجرها عاملان أو ثلاثة وميزتها أنها قريبة من مكان العمل بمدينة نصر لأننا لا نستطيع أن نسافر يوميا إلى بلدتنا فنحن من محافظات مختلفة وأغلبنا من الصعيد والفيوم وتكلفة السفر مرتفعة ومنا من يسافر كل أسبوعين ومنا من يسافر كل شهر وعن الطعام الذى يتناولوه أضاف وجبتنا الأساسية الفول والطعمية والكشرى وفى الغالب (نأكل جماعة) وأضاف لا نأكل اللحوم أبدا إلا إذا كنا نعمل فى بيت من البيوت وقدم إلينا الغذاء.
(كلنا على باب الله) كانت هذه هى كلمات محمد محمود 40عاما وأضاف قائلا قبل الثورة كنا نتعاقد مع شركات، ونشتغل معها حتى انتهاء المشروع الذى تنفذه، سواء كان قرية سياحية أو برجا أو رصف طريق، وكنا نأخذ أجرنا باليومية أيضا. ولكن بعد الثورة وتوقف كثير من المشروعات توقف رزقنا وأصبحنا نتلهف على أى عمل حتى ولو كان إنزال الرملة من الشقق للشوارع.
ويكشف محمود عن المشكلة الأساسية والتى تؤرقه وهى عدم وجود مستقبل لمهنته قائلا: كثير منا يموت أثناء العمل كأن يقع عامل من الثقالة ووقتها لا تكون له دية ولا يسأل عنه أحد (كلب وراح) ومن يصاب يتحمل هو تكلفة علاجه كلها لذلك نطالب بوجود نقابة تحمى مصالحنا تحمى من ليس لهم عمل ثابت من يتكسبون رزقهم يوما بيوم فهذه المهنة تتطلب الصحة والشباب والرجل بعد ال40 لا يقدر على العمل مثل الشباب لذلك يقل إنتاجه.
أحمد مصطفى 25 عاما قال لى فى غضب: الثورة لم تصل لنا لم يشعر أحد بنا الثورة تحدثت عن عدالة وعيشة كريمة ومازال الملايين منا ينامون على الأرصفة بدون عشاء يدخرون يوميتهم حتى يستطيعوا العودة لمحافظتهم فمن غير المعقول أن يتقاضى العامل فى الشهر مايقترب من 600 جنيه ينفق نصفهم على إيجار الحجرة والطعام والمواصلات ويرجع بلدته ب 300 جنيه لذلك فالكثير منا ينام بلا عشاء حتى ولو فى جيبه المال لأنه يدخره كى ينفق به على عائلته مشيرا إلى أنه يعول والدته العجوز بعد وفاة والده وله أخ فى الصف الرابع الابتدائى وأخت فى سن الزواج.
سألت عم محمد عطية 05 عاما عن أماكن وجودهم وأهم الميادين التى يتواجدون فيها فقال يوجد أماكن كثيرة وننتشر فى عدة محافظات فى الإسماعيلية أغلب عمال التراحيل من محافظات الصعيد مهنتهم المعمار، يجلسون فى مكان اصطُلح على تسميته مزلقان العمال يوجد أسماء أيضا لأماكن تواجد عمال التراحيل وهى سوق الرجال ففى القاهرة يتواجد العمال فى الحى السابع والعاشر بمدينة نصر بالقرب من التجمعات الجديدة والتى يكثر فيها حركة البنيان.
وفى الشرابية والسيدة زينب والألف مسكن وفى ميادين الجيزة والهرم وفيصل.
وأنا أتحدث معه توقفت سيارة مرسيدس بيضاء وتجمع حولها عشرات العمال فى أقل من ثوانى وخرج رجل كبير يرتدى جلبابا وتعالت أصوات العمال مابين موافق ومعترض وركب 4 عمال فى السيارة وعندما سألت عم محمد عن هذا الرجل فقال يتكرر هذا المشهد بين الحين والآخر فهذا مقاول ويأتى (لسوق الرجال) كى يتفق مع العمال على مهمة محددة فى أغلب الأوقات تكون مهمة قصيرة يومين أو ثلاثة ويتقاضى العامل يومية لا تتجاوز ال60جنيها منهم من يعترض ومنهم من يقبل. وقبل الثورة التفاوض كان يأتى بنتيجة وأحيانا كان يرفع المقاول اليومية ل80جنيها لكن بعد الثورة لا أحد يريد أن يعطى الآخر حقه والكل يستقطع من يومية العامل الغلبان تحت ضغط أن الأوضاع سيئة وأن العمل بأى أجر أفضل من البطالة والانتظار فى الشمس الحارقة دون أمل.
ومن جانبه أكد الدكتور صلاح الجندى أستاذ الاقتصاد بجامعة المنصورة أن التقديرات غير الرسمية تشير إلى أن عدد العمال قد يصل إلى 12مليون عامل غير مؤمن عليهم ولا يعملون تحت مظلة مؤسسية.. وأضاف الجندى لا شك أن عمال التراحيل جزء مهم من الاقتصاد غير الرسمى الذى يوجد فى مصر موضحا أن عمال التراحيل يمثلون نحو40٪ من العمالة الموجودة فى مصر، وهى عمالة غير رسمية، وقد يرتبط هؤلاء بالقطاع الرسمى فى الدولة بحيث تجدهم يقومون مثلاً بتدوير القمامة وإعادة تصنيعها وذلك بأجر قليل جداً، ويستفيد من ورائهم كبار رجال الأعمال.