سيبدو هذا العام وله رنين أعوام، تفصل بين عهدين وعالمين عالم قبله له وقعه وإيقاعه وسياسته وزعماؤه، وعالم بعده يعكس الصورة السابقة عليه تماما. شبيه بأعوام تعرف بحوادثها وأحداثها فى أذهاننا، مثل 76، 37 بل بالغ بعض المراقبين، وشبه هذه الثورات العربية، بالثورات التاريخية التى ظلت آثارها وزخمها، لعشرات السنين التالية، مثل الثورات الفرنسية والروسية والصينية. ولن نقدم مراقبين يؤكدون أنها أهم وأعظم من هذه الثورات، لميزات تتفوق بها على تلك الثورات. ومع مرور أيام وأسابيع وشهور ذلك العام «غير العادى» كان كثيرون يعيدون النظر فى تقييمهم لمسار الأحداث وتطورها بل يعيدون النظر فى التوصيف الذى يطلقونه على هذا الحدث، هل هو ثورة أم اسم آخر. ويمكن التذكير بعشرات المقالات والتقارير، التى توقفت عند الوصف الدقيق، الذى يجب أن توصف به الأحداث. ومن بين الذين هللوا للثورة، وبشروا بها، وعبروا عن سعادتهم باندلاعها، من راجعوا حماسهم، وأقروا بأنها يمكن أن تكون نشاطا وإنجازا ما، ولكن لا تنطبق عليه شروط الثورة وملامحها وآثارها. بل إنه من بين الذين شاركوا فى هذه الثورة أو فى هذا الربيع، مشاركة فعلية، منذ اندلاع شراراتها من رفع صوته بهتاف حزين، لقد أجهضت الثورة أو اختطفت الثورة. كثير من هؤلاء المشاركين والمراقبين والمواطنين، تنبهوا أن هذه الثورات، لم تقتلع سوى رأس النظام، وعائلته. ولكن النظام باق بكل أركانه ورموزه وآلياته. وأن المواقع التى خلت، لم تملأها رموز نظام جديد، ولكن حلت محله فوضى توشك أن تقتلع الأخضر واليابس. ومع هذا فإن أحدا لا ينكر أن شيئا غير عادى قد حدث، وأن الأمور لم تعد كما كانت ولن تعود كما كانت. ولكن لا يمكن أن يشير أحد بيقين كامل إلى الطريق الذى سوف تسير فيه الأوضاع، فى كل بلد عربى من البلاد التى عصفت بها رياح التغيير. ولنقصر الحديث عن مصر كنموذج لبلد، لا يتصور أحد فيه مع نهاية عام 1102، أن هذا البلد الذى منذ عام واحد، أى فى سنة 0102، كان فيه رئيس يحرسه الجيش وتملأ صوره الصحف والشاشات يأمر فيطاع، ويخطط ليتولى ابنه الحكم من بعده. وحوله حاشية تتضاعف ثرواتها، وتنتقل مطمئنة بين بلاد العالم وليس بين ربوع الوطن وحده. وأنه مع نهاية عام 1102، كان محمولا على سرير، قادما من سجنه، إلى قاعة محكمة يستأنف محاكمته بعد تأجيل، وحوله بعض أعوانه ولا يستطيع لقاء ابنيه إلا فى قفص الاتهام، قادمين من زنزانة سجن لم يتصورا للحظة أنهما سيكونان يوما بين نزلائه. ومع هذا فإن هذا المشهد لا يكفى للإشارة إلى الطريق الذى سوف تسير فيه مصر بعد هذا التغيير العاصف. وهذا المقال محاولة من محاولات الآلاف من المصريين لتصور الطريق الذى تندفع إليه بلدهم.
∎على الحافة
ونبدأه بالإشارة إلى أن هذا الانفجار الذى بدأ فى 52 يناير لم يكن مفاجئاً تماما، على الأقل للذين عملهم متابعة التطورات السياسية والاجتماعية. ويستحقون الاحترام.. هؤلاء المراقبون والمحللون - ومنهم متخصصون فى الشرق الأوسط وأوضاعه من الغربيين والعرب - الذين يعترفون أنهم لم يتوقعوا إمكانية حدوث ما حدث ولا الطريقة التى حدث بها. ولكن هناك من تنبأوا، بقرب اندلاع انتفاضات أو أحداث ثورية، تغير الأوضاع القائمة، أو على الأقل، تطيح بأعمدة الوضع القائم. وهناك تقارير وأبحاث وكتب، تناولت الأوضاع فى مصر - الذى نقصر هذا الحديث عنها - تحمل تنبؤات قاطعة، وتذكر السيناريوهات التى يتوقعونها لهذه التغيرات. من بين هذه الكتب - على سبيل المثال - كتاب صدر فى سنة 0102، أى قبل الربيع العربى، بعدة شهور، بعنوان « مصر على الحافة من ناصر إلى مبارك » من تأليف الباحث المصرى طارق عثمان ومن مطبوعات جامعة بيل الأمريكية. والكتاب فى مجمله عرض لوضع مصر، وتشخيص لحالتها الراهنة وما آلت إليه فى مختلف المجالات، وكيف يمكن أن تواجه حالة الركود الكاملة التى طبقت أوجه حياتها ؟ وقبل أن أقول لك تصوره لمواجهة هذه الحالة، سألخص لك بتطويل بعض الشىء التشخيص الذى انتهى إليه خلال فصول الكتاب. وهو يفتتح كتابه بما يشبه المرثية أو البكائية على أوضاع مصر من الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وهو يحدد بداية ما يدعو إلى الرثاء، ببداية ما سمى بعصر الانفتاح، الذى ارتبط بحكم السادات منذ منتصف السبعينيات. فمن هذه البداية، كانت نشأة كل الشرور التالية لأن هذا الانفتاح، كان نذيرا بانهيار شرعية النظام. فأحد أركان تلك الشرعية، هو حماية الفقراء، وجاء الانفتاح انحيازا كاملا للأغنياء، أو الذين يطمحون أن يصبحوا أغنياء والغنى فى تلك الحقبة لم يكن مصدره العمل والإنتاج، ولكن التجارة غير المشروعة والمضاربة فى أراضى الدولة والفساد. والمثل الذى يضربه على هذه البداية، العامل فى ميناء الإسكندرية، الذى كان مرتبه 53 قرشا فى اليوم، أصبح فى هذا الجو مليونيرا خلال سنوات قليلة، وبسرعة أصبح 04٪ من الثروة، فى يد 5٪ من السكان، ونصف هذه الثروة فى يد عشرين عائلة. وأصبح 04٪ من سكانها تحت خط الفقر. وفى هذا المناخ العام، بدأ التيار الإسلامى، يزحف، ويقدم مشروعا مقابلا ويتحدى الدولة. وبينما كانت نسبة الحجاب فى الستينيات 03٪ وصلت إلى 56٪ مع بداية السبعينيات. وألقى الصعود الإسلامى بظلاله، على العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، وتصاعد هذا التوجس إلى خوف وصدام، وأصبحت الوحدة الوطنية مهددة وبينما معظم الدول، التى بدأت مع مصر، طريق النمو فى الخمسينيات، تنفض عن نفسها ثوب التخلف، كانت مصر تتجرع مرارة الفشل والتراجع. والمؤلف الضليع يشير إلى أن عصر مبارك لم يأت من فراغ، فهو حصاد لتطور تاريخى، يعود به إلى نشأة الدولة الحديثة على يد محمد على فى مطلع القرن التاسع عشر. حيث كان التحديث يحمل إلى جانبه، جوانب تنتج التخلف والماضى وفكر التواكل وكانت مصابيح الحداثة، التى أضاءت النصف الأول من القرن العشرين تشحب وتنطفئ شيئا فشيئا فى نصفه الثانى. والمثل الذى يوضح الفرق بين نصفى القرن، هو طه حسين فى النصف الأول يدعو إلى اللحاق بالغرب واكتساب منهجه فى التقدم، ويقابله فى النصف الثانى الشيخ العشراوى يقول للملايين التى تسمعه: إن الله سخر لنا الغرب لينتج ويخترع ويبدع، ونحن نستفيد ونعيش على خيراته.
∎ عصر الركود
وطوال الثلاثين عاما، التى تولى فيها حسنى مبارك حكم مصر. لم يتوقف خط التقدم والنمو، ولكن طبع الركود والانهيار وتأجيل المشكلات الأساسية كل أوجه الحياة. وأسندت الآفاق أمام معظم مواطنى البلد، باستثناء العدد القليل الذى يدور فى فلك النظام وسياسته أو الحق اللا سياسات. ومن هنا يأتى تنبؤ الفريق الذى يرى أن أمور البلد وصلت إلى الحد الذى لابد معه من الانفجار وتغيير الأوضاع. ويشرح المراقب الذى نعرض لتصوره القوى الفاعلة عشية التغيير القريب ويحددها فى المؤسسة العسكرية والتيار الإسلامى والشباب وممثلى الرأسمالية الليبرالية. ويتصور أن يأتى التغيير مع تولى جمال الابن الحكم، خلال لحظة ما قريبة، حيث يبدأ الصدام. ويحلل موقف كل طرف من الأطراف ووزنه، ويرى أن الطرف الذى سوف يحسم هو المؤسسة العسكرية. ليس مطلوبا أن يكون التنبؤ حرفيا أو رجما بالغيب، ولكن يكفى هنا الإشارة بدقة إلى الظروف والحالة النفسية التى تهيئ للانفجار. فكثيرون كانوا يشيرون إلى الكبت والصراع المكتوم فى البلدان الاشتراكية قبل سقوط سور برلين والثورة أو الثورات العاصفة. ولكن أحدا لم يتخيل « شكل » ما حدث ولا توقيته ولا طابعه ولا نتائجه بالضبط. وهذا ما يمكن قوله على بداية واندلاع وجماهير الربيع العربى.
كان الناس فى انتظار التغيير، ولكن شرارته وشعاراته وقواه المحركة وميادينه وإبداعاته كانت فى رحم الغيب.
وغاية ما نطلبه من التنبؤ أن تكون نظرته للواقع موضوعية ودقيقة وتضع يدها على ما هو أساسى فى المشهد. أما الثورة نفسها، أو الانفجار عند اندلاعه، فمشهد آخر. فالتنبؤ يرصد الأوضاع، قبل أن ينتقل المجتمع إلى مشهد جديد، وهذه الأوضاع مليئة بعديد من العناصر، التى تتفاعل معا، ومن الصعب تحديد نتائج هذه التفاعلات، والمسار الذى سوف تسلكه. وغاية ما يستطيعه هو الإشارة إلى عناوين عامة.
∎ ربيع أم شتاء
ومن هنا فمن المبكر جدا الحكم على نتائج الربيع العربى ومن بينها أحداث مصر. وإذا كان لا يمكن التقليل من الإطاحة برأس النظام وحاشيته فإن التطورات التالية هى التى ستضع الأثر الحقيقى لهذه الإطاحة وقد يستغرق هذا الأمر سنوات. ومثل هذا الكلام يمكن قوله على الذين تنبأوا بتعرض الثورة للاختطاف عند اندلاعها. فهناك منذ اللحظات الأولى من توجس شرا من الطريق الذى سوف تسلكه وتقود إليه أحداث الثورة، بمجرد نجاحها فى تحقيق نصر على النظام القائم. وإذا كان الذين هللوا للثورات كثيرين الذين يملأهم الأمل فى أوضاع أفضل. فإن قليلين هم الذين لم تهزهم الفرحة والابتهاج، وأعلنوا أن هذا الربيع سوف يتحول إلى شتاء إسلامى. ولم يكن هذا الرأى من قبيل التشاؤم والتركيز على نصف الكوب الفارغ، ولكن لديهم أسباب ومظاهر مقنعة. فإذا كان الصوت الأعلى، فى لحظة البداية، للمعارضين للاستبداد والفساد والآملين فى مجتمع ديمقراطى يقر بحقوق الإنسان واحترام الآخر واستكمال مسيرة النهضة، فإن هؤلاء الساخطين لا تجمعهم مؤسسات وقيادات وتاريخ وقوى اجتماعية، بينما القوى الأكثر تنظيما وتجذرا وشراسة، هى التى تحمل وتدافع عن أجندات تنظر إلى الماضى أكثر من تطلعها إلى المستقبل، وتعارض قيم الحداثة والنهوض ولا تقر بالحريات الشخصية ولا تقر بأن الدين أمر بين الإنسان وربه. وإذا كانت الصناديق قد قالت نعم لأصحاب هذه الدعوات فإن الوقت مبكرا أيضا للقطع بأن الدنيا قد دانت لهم وأن ثمرة الإطاحة برأس النظام قد سقطت فى حجرهم.