(1-2)خليل كلفت: قد يكون عنوان هذا المقال غريبا لأنه قد يوحي بإضفاء طابع الرياضيات علي السياسة وبالأخص علي ثورة شعبية يغلب عليها طابع العفوية من الناحية الأساسية، وليس طابع الحساب الدقيق، فيكون من الصعب تماما التنبؤ بتطوراتها التي تحكمها عوامل بالغة التعقيد والتشابك. وكأمثلة بارزة: لم يكن بمستطاع أحد أن يتوقع اندلاع ثورة شعبية هائلة كثورة 25 يناير 2011 رغم نضالات كبيرة سبقتها، وحتي رغم اندلاع مظاهرات 25 يناير، ورغم تردي الأوضاع الاجتماعية-الاقتصادية للشعب؛ وهذا علي كل حال شأن كل الثورات السياسية الشعبية التي يستحيل التنبؤ بها؛ ولم يكن بمستطاع أحد أن يتوقع أن تتطور الأحداث علي طريق الانقلاب العسكري وتنحية الرئيس بصورة أقرب إلي السيناريو التونسي بدلا من سيناريوهات أخري كانت واردة منها السيناريو الليبي أو اليمني أو السوري وبالتالي اختيار طريق التصفية التدريجية للثورة بدلا من طريق الحرب الأهلية؛ وكان كثيرون لا يتوقعون أن يكون اكتساح الإخوان المسلمين والسلفيين بهذا الحجم المفزع؛ بالطبع بالاعتماد علي الفقر والجهل والمرض أي الحالة الفعلية لقطاعات واسعة من الشعب وباستخدام تزييف إرادة الشعب بكل الوسائل ومنها الترويع والتزوير المباشر. لم يكن بوسع أحد أن يتصور تطورات الثورة فضلا عن أن يتوقعها أو يتنبأ بها غير أنني أقصد بهذا التعبير وقائع وحقائق وعوامل وأوضاعا تحيط بالثورة والثورة المضادة وبهذا الصراع المفتوح بينهما وهي بطبيعتها وبجانبها الأكبر أقرب إلي "الوقائع" منها إلي "التوقعات والتنبؤات". ومثل هذه الوقائع أشياء عنيدة مهما قيل إن الثورة المصرية نسيج وحدها بحيث لا يمكن تقييمها علي أساس العلم السياسي المقارن ولا علي أساس السوابق التاريخية للثورات السياسية المماثلة في العالم الثالث أو العالم كله، في التاريخ الحديث أو المعاصر، ومهما قيل عن ارتباط هذه الخصوصية الفريدة بطبيعة الشعب المصري وسماته وخصائصه الفريدة وطبيعة مكوِّنه الحضاري بحيث يرتبط هذا النوع من التفكير في كل الأحوال بتفاؤل لا تشوبه شائبة من الشك أو التشاؤم وبمبالغة قد تصل إلي أن ثورتنا سوف تغير العالم مادامت قد انتقلت شرارتها وعدواها المباركة إلي المراكز الرئيسية للنظام الرأسمالي وإلي كثير من توابعه في العالم الثالث. وبطبيعة الحال فإنه لا يمكن إنكار خصوصية وفرادة وعبقرية كل ثورة سياسية والصعوبة البالغة في تقدير المدي المتوقع لنجاحها؛ غير أنه لا يمكن أيضا تجاهل خصوصية وفرادة وعبقرية الواقع الاجتماعي السياسي المحلي والإقليمي والعالمي ومختلف القوي الفاعلة فيه والتي قد تكون شروطا مواتية أو غير مواتية لنجاح الثورة والتي لا يمكن مع ذلك أن تضع حدودا جبرية حديدية تسجن بداخلها كل جدل الصراع المفتوح بين الثورة والثورة المضادة بكل جوانبه الأساسية وبكل تفاصيله. فما هي هذه الحقائق الفاعلة في تطورات ثورتنا والتي لا ينبغي تجاهلها بحال من الأحوال والتي ينبغي أن نجعل من فهمها علي وجهها الصحيح قوة مضافة إلي الثورة وقواها الحقيقية. ليست اشتراكية 2: وتتمثل المعادلة الأولي والأساسية للثورة في سياقها التاريخي. فهي ثورة من الثورات السياسية النموذجية لشعوب العالم الثالث (إذا وضعنا نضالات حركات الكفاح المسلح جانبا)، لأنها ثورة سياسية في سياق التبعية الاستعمارية والرأسمالية التابعة كما هو حال العالم الثالث. ولا شك في أنها ليست ثورة اشتراكية لأنها ليست ثمرة نضال اشتراكي ثوري للطبقة العاملة بقيادة حزب شيوعي ثوري في سبيل انتصار الثورة الاشتراكية. كما أنها ليست ثورة سياسية تتوِّج ثورة اجتماعية لتحويل مصر إلي بلد صناعي مستقل في الإطار التاريخي للنظام الاجتماعي الرأسمالي؛ ذلك أن حالة الثورة السياسية الرأسمالية يسبقها تحول رأسمالي تدريجي طويل للصناعة الحديثة والسوق الرأسمالية والرأسمالية الزراعية والتقدم العلمي والثورة الفكرية والأدبية التقدمية التي تمهِّد للتغيير الثوري، وهو تحوُّل يحتاج إلي ثورة سياسية تزيل كل العراقيل من طريق هذا التحول الرأسمالي ليواصل تطوره علي مدي زمن طويل آخر بعد الثورة السياسية إلي أن يحقق النظام الرأسمالي نضجه واستقراره؛ ولم تعرف مصر ولا بلدان ثورات الربيع العربي ولا بلدان العالم الثالث مثل هذا التطور نتيجة لوقوعها تحت سيطرة التبعية الاستعمارية في المستعمرات وأشباه المستعمرات. وإذا كانت إحدي المهام الكبري للثورة السياسية في سياق ثورة اجتماعية أي في سياق تحول رأسمالي جذري تتمثل في نقل السلطة السياسية من أيدي طبقة اجتماعية قديمة إلي أيدي الطبقة الرأسمالية التي قادت الثورة بمصالحها والأيديولوجيا الخاصة بها فإن ثورات العالم الثالث لا تنقل السلطة من طبقة إلي طبقة؛ فباختصار تتواصل التبعية الاستعمارية وتتواصل سيطرة الرأسمالية التابعة وتتواصل سلطتها السياسية. وهناك استثناء وارد عندما يتسع نطاق المواجهة من خلال حرب أهلية أو من خلال انقلاب عسكري حيث تجري إعادة تكوين طبقة رأسمالية تابعة جديدة من حيث أفرادها مستمرة من حيث طبيعتها الرأسمالية التابعة أي أنه لا يتغير شيء جوهري من وجهة نظر مصلحة الشعب حيث لا فرق بين طبقة رأسمالية تابعة قديمة تتكون حول شاه إيران وطبقة رأسمالية تابعة جديدة تتكون حول آيات الله في إيرانالجديدة. ومن هنا شهدت مصر ثورة 1919 وانقلاب 1952 العسكري الذي أيده الشعب فصار بنعمة الله ثورة شعب وتشهد الآن ثورة 25 يناير 2011؛ غير أن التبعية الاستعمارية والطبقة الرأسمالية التابعة تتواصلان رغم إعادة تكوين الطبقة المالكة مرتين علي الأقل في أعقاب الانقلاب العسكري في 1952 ومن خلال سياسة الانفتاح وبيع القطاع العام في عهدي السادات و مبارك. وهذه معادلة اجتماعية اقتصادية سياسية تحكم ثورتنا والثورات العربية الراهنة فهي ليست ثورات اشتراكية كما أنها ليست حتي ثورات رأسمالية لخلق بلدان صناعية مستقلة. استمرار التبعية تجري الثورة بالتالي في سياق استمرار التبعية الاستعمارية والطبقة الرأسمالية التابعة؛ فهل يجوز بعد كل هذا وصفها بأنها ثورات سياسية مع أنها لن تنقل السلطة السياسية إلي الشعب من خلال ممثلين حقيقيين له ولثورته؟ والواقع أن السلطة تبقي للرأسمالية في واحد من شكليها المحتملين: سلطة نفس الطبقة المالكة الرأسمالية التابعة الراهنة في حالة الثورتين المصرية والتونسية، في حالة استمرار نفس السيناريو الحالي، أو سلطة طبقة رأسمالية تابعة جديدة تتكون من خلال نُخَب جديدة تتمخض عنها الحرب الأهلية كما يحدث الآن في ليبيا وكما يحتمل أن يحدث غدا في سوريا وربما في اليمن. فلماذا نصف هذه الثورات بأنها سياسية مع أنه ليس من الوارد أن تستولي الثورات أو الشعوب علي سلطة الدولة؟ الحقيقة أننا نصف هذه الثورات بأنها سياسية لأنها تهدف - إلي جانب أهداف ومطالب العدالة الاجتماعية وتغيير أسس توزيع الثروة - إلي إعادة تنظيم أسس ممارسة السلطة السياسية انطلاقا من تحقيق وممارسة الديمقراطية الشعبية من أسفل، وهذا مفهوم للثورة السياسية يختلف تماما عن المفهوم الكلاسيكي للثورة السياسية في العصر الحديث كما حدثت في البلدان التي صارت بلدانا صناعية متقدمة.