يشهد هذا العام -2011- منذ بدايته، محاولات قوية وظافرة، للخلاص من أسباب الركود والفشل والإحباط والخوف، التى صبغت - وتصبغ- مختلف أوجه الحياة، فى معظم البلاد العربية، منذ عقود من السنين وكانت هذه المحاولات مفاجأة للغالبية فيها من حكام ومواطنين ومراقبين ولكن هناك أصواتا، تنبأت بهذا الذى حدث ويحدث، والذى زلزل واقتلع أنظمة راسخة ومدججة بمختلف الأسلحة. بل إن بعض هذه التنبؤات، التى أصدرها أصحابها فى كتب، رسمت تصورات للأوضاع التى ستشهدها البلاد التى ستهزها أعاصير التغيير وبعض هذه الكتب صدر منذ وقت قريب، فى العام السابق الكتاب الوحيد الذى أطلق عليه، يحمل هذه السمات، صدر فى أواخر 2010 بعنوان ( مصر على الحافة، من ناصر إلى مبارك) تأليف طارق عثمان، ومن مطبوعات جامعة بيل الأمريكية وهو - كما يقدمه لنا الناشر - من خريجى الجامعة الأمريكيةبالقاهرة، وأنهى دراسته العليا بإحدى الجامعات الإيطالية، ويعيش بين القاهرة ولندن، ويكتب فى الشئون المصرية، فى عدد من الصحف والدوريات العالمية. والكتاب ممتاز ومفيد ويوفى كل شروط الجودة والإتقان. حيث يعتمد على الكم اللازم من المعلومات والبيانات والأحداث والأرقام والمقارنات. ويحسن استخدامها وترتيبها واستخلاص النتائج من المقدمات التى يعرضها ويفتتح كتابه بما يشبه المرثية أو البكائية على الأحوال المتدنية، التى آلت إليها مصر، فى مختلف المجالات، فى السنوات التى ربما يحدد بدايتها ببداية ما سمى عصر الانفتاح وما تلاه. فمن هذه البداية، بدأت كل الشرور والبذور التى أتت على كثير مما بنته المراحل السابقة. فقد كان الانفتاح إيذانا، بتآكل شرعية النظام، الذى كان من أركانه حماية الفقراء، حيث انحاز انحيازا كاملا إلى الأغنياء. ولم يكن الغنى معتمدا على الحماية وإضافة الثروة، ولكن على التجارة غير المشروعة والمضاربة فى أراضى الدولة والفساد الذى تصاعد حتى أصبح هو القانون غير المكتوب. والمثل الذى يضربه لهذا التطور، العامل الذى كان أجره 35 قرشا يوميا، على إحدى السفن فى سيناءالإسكندرية، اصبح مليونيرا فى بضع سنوات فى السبعينيات. والسعى إلى الإثراء السريع، فمن حماية الدولة، قسم المجتمع إلى قلة فى القمة، وأغلبية توفر لقمة العيش بالكاد. 40% من الثروة فى يد 5% من السكان ونصف هذه الثروة فى يد عشرين عائلة. المد الإسلامى وفى هذا المناخ الخانق، ولد التيار الإسلامى، بأجنحته المتعددة، يتحدى الدولة، ويقدم مشروعا آخر، يعتمد الدين مرجعية أساسية، ويضع أسسا مشروعة، وفى مواجهة الدولة، مستغلا الفراغ الذى تركته وراءها، والجراح التى تركتها سنوات الحروب والآثار السلبية للطفرة البترولية، وفى العمق من مشروعه إقامة دولة دينية. وارتفع المد الإسلامى عاما بعد عام. وبينما كانت نسبة اللائى يلبسن الحجاب فى الستينيات 30% وصلت إلى 65% مع بداية التسعينيات. وبينما كان هناك مسجد لكل 6031 مسلما فى منتصف الستينيات أصبح هناك مسجد لكل 745 فى منتصف العقد الأول من الألفية الثانية. وألقى الصعود الإسلامى ظلالا من التوجس على العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، وتصاعد هذا التوجس إلى خوف وصدام وأصبحت الوحدة الوطنية مهددة. والمثل الذى يضربه المؤلف هنا، هو المواطنة المصرية المهاجرة إلى الولاياتالمتحدة، حين عادت فى زيارة إلى مصر، ذهبت إلى نادى هليوبوليس مع أطفالها. وتعود الأم إلى بيتها غير مصدقة، لأن طفلتها شكت لها بحزن أن الأطفال رفضوا أن يلعبوا معها، بعد أن عرفوا أن اسمها مارى. وتعليقه على هذا الوضع، الذى وجد المسيحيون أنفسهم فيه، والذى تنتشر وتندعم فيه أسلمة الحياة والمجتمع، ويضعف فيه حس المواطنة والمصرية، هو الهجرة إلى الخارج أو الانسحاب فى الداخل. ويرصد أن نسبة إسهامهم فى المشروعات الخاصة، انخفضت من 35% إلى 25% وفى المهن - كالطب- من 30 إلى 20% وبين أساتذة الجامعة من 25 إلى 15% وإذا كانت نسبتهم العددية فى الستينيات بين 14 و16% فإنها انخفضت فى 2000 إلى بين 9 و10% وفى الوقت الذى يتمزق فيه النسيج الوطنى، بمعدل صاعد، تتآكل الطبقة المتوسطة وتسقط عنها أفضل مزاياها ومنابع قوتها ويتراجع دور مصر، على كل المستويات، على امتداد الإقليم، الذى كانت منارته على امتداد أجيال. ويصبح 40% من سكانها تحت خط الفقر، وموقعها بين 40% من الدول الأكثر فقرا. الدولة الحديثة وإذا كان مبارك قد قدم نفسه، منذ تسلمه سدة الرئاسة، بأن حكمه سيتم بالهدوء والتدرج والاستماع إلى صوت النساء. فإن هذا المعنى أصبحت ترجمته فى الواقع إلى هوة من الركود والبلادة وضعف الخيال. وبينما معظم البلاد التى بدأت مصر معها طريق النمو، فى الخمسينيات، نفضت عنها ثوب الضعف والفشل، وضعت أقدامها على طريق التقدم، حتى الدول التى دمرتها الحرب مثل فيتنام، وبعض الدول العربية المجاورة ومصر تتجرع مرارة الفشل والتراجع والانكفاء وتنكسر أرواح مواطنيها وتسيطر السلبية واليأس والإحباط على النفوس. ولكن عصر مبارك لم يأت من فراغ والمؤلف الضليع يضعه فى إطاره التاريخى فيعقد فضلا للتطورات التاريخية منذ وضع محمد على أسس الدولة الحديثة وبروز الهوية المصرية، منذ مطلع القرن التاسع عشر، حيث بدأت نهضة مصر، عندما أرسل محمد على 350 مبعوثات إلى أوروبا ويلقى نظرة على القرن العشرين، ويرسم لوحة للنصف الأول منه، حيث تورق آيات التقدم وتنتشر الأضواء وتولد المؤسسات روح التعدد والحوار مع الآخر هى السائدة، مليون ونصف المليون أوروبى ينقلون أوروبا إلى تربتنا. زراعة القطن. البورصة المصرية، جولد الجامعة، الجمعية الجغرافية. طه حسين، أم كلثوم، أهل الكهف لتوفيق الحكيم وغير ذلك كثير. والمثل الذى يضربه لمصر تلك الأيام الأغنية التى تغنيها الممثلة سمانتا فى فيلم معروف عالميا ( دكتور دولتيل تقول كلماتها : اريد أن أرى باريس ولندن وروما والقاهرة. ولا ينسى أن ينبه إلى أن هذا الازدهار والاندفاع، لا يحرك المجتمع بكل طبقاته، فبذرة التراجع كامنة فى هذا الانقسام وعلى العكس من النصف الأول للقرن العشرين، يكون النصف الثانى من القرن العشرين. والذى شهد عصور عبدالناصر والسادات ومبارك فكل المصابيح التى أضاءت النصف الأول، تشحب أضواؤها وتنطفئ ويستثنى من هذا العصر، فترة عبد الناصر، التى يكيل لها الثناء والتوهج. ولكن لا تخفى عليه عوامل الضعف الكامنة فيها، التى جعلت السادات يصفى إرثها فى وقت قليل. والمثل الذى يضربه للفرق بين النصف الأول للقرن ونصفه الثانى، أن فى الأول تسمع صوت طه حسين، يدعو إلى الارتباط بالغرب وتعلم منهجه. وفى نصفه الثانى يجلجل صوت الشيخ الشعراوى، ويقول للملايين التى تسمعه: إن الله سخر لنا الغرب لينتج ويخترع ويبدع، ونحن نعيش على خيراته ! وحين يتوقف عند حقبة مبارك، كان الركود وتراب الإهمال والتقاعس قد صبغ كل شىء. كيف الخروج من هذا النفق المظلم ؟ إن هذا الكتاب يستحق عناء القراءة والمراجعة، بسبب اجتهاد الباحث فى محاولة التنبؤ والإجابة على سؤال، كيف ستسير الأمور فى مصر، وكيف تخرج من هذا المأزق ؟ إن تنبؤه يبدأ بغياب مبارك عن الساحة، وتولى جمال مبارك مقاليد الحكم. المواجهات ليس مهما أن هذا التنبؤ قد خاب، فقد كان هذا التصور هو السائد بين غالبية المراقبين والمواطنين ولا تنسى أنه كان يكتب ومازال حسنى مبارك على رأس النظام ويتخيل المشهد بعد أن يتولى الابن حكم مصر. والتحديات والمواجهات والتفاعلات والقوى المتصارعة أقرب ما تكون إلى المشهد الراهن. حيث يحتدم الصراع بين قوى الرأسمالية الليبرالية، التى تتمثل فى زواج السلطة والمال بقيادة جمال، والمؤسسة العسكرية، والتيار الإسلامى، والشباب وتحليله لكل طرف من هذه الأطراف، يتسم بالدقة والعمق. فرأيه - مرة أخرى لا تنسى أن كتابه صدر فى 2010- أن جموع الشباب المصرى، هى التى ستسهم بقوة فى تحديد المستقبل الذى تنتظره مصر. فهم القوة الأكبر عددا، حيث أن 45% من السكان، تحت الخامسة والثلاثين. وإذا كان التيار الرأسمالى قد جذب قسما منهم، والرأسمالية الليبرالية جذبت قسما آخر، فإن قسما كبيرا من هذا الجيش الكبير من الشباب، يحلم بمصر حديثة ومختلفة، معظمهم لم ير غير مبارك ولم يشارك فى حرب ولم ينخرط فى مشروع قومى، ولكنهم حصلوا على تعليم أفضل من التعليم العام، ولديهم كمبيوترات ويتواصلون مع وسائل الاتصال الحديثة، وتلمسوا روحا مختلفة حققوها فى مجالات السينما والأدب والفنون ومؤسسات المجتمع المدنى والهيئات الخيرية والعمل فى مجالات بعيدة عن الوظائف الحكومية. هؤلاء الشباب سيلعبون دورا مهما فى تقرير مستقبل مصر الذى ستتخبط مجموعة جمال مبارك فى إقرار برنامج يجيب على الأسئلة المطروحة حول السياسة الخارجية، التى سوف تتمثل فى الموازنة بين إرضاء الشارع وبين الاعتماد على أمريكا وبين التغيير المطلوب، الذى سيكون ثمنه فقدان الذى بيدهم السلطة مصالحهم ويتوقف عند التيار الإسلامى، ويستعرض مكوناته وأوضاعه الداخلية وعلاقته بالقوى الأخرى فى الداخل والقوى الخارجية ومنابع قوته ومكامن ضعفه، ويتساءل فى النهاية : هل سينجح التيار الإسلامى فى أن يصبح لاعبا أصيلا أم سيتحول إلى مجموعة معارضة ضعيفة؟ وهذا التساؤل كان مقبولا، أثناء حكم مبارك - عندما كتب المؤلف كتابه - أما بعد مبارك فلابد من تغيير السؤال ثم يقر أن المؤسسة العسكرية، هى التى ستحسم الأمر فى النهاية، فى تلك المرحلة، التى ستعقب غياب مبارك، وتولى ابنه والتى ستشتد فيها التفاعلات، ولابد خلالها من الإجابة على الأسئلة المطروحة، وحول طريق الخلاص من الأزمة المجتمعية، التى ترك مبارك البلد تتخبط فى ظلالها. نقدم هذا الكتاب، لما فيه من جهد نبيل، يتتبع وقائع التاريخ المصرى المعاصر، حتى اللحظة الراهنة. وإذا كان قد جعل عنوان بحثه ( مصر على الحافة من ناصر إلى مبارك) فهى ليست على الحافة حقا كما هو اليوم إما أن تنجح فى وضع قدميها على طريق النهوض والتقدم، ,إما أن تراوح مكانها، فى هوة فشل، تسحق كل ما بنته. إن فرصة من فرص التاريخ النادرة، تلوح أمامها لتجدد نفسها وتلحق بركب التقدم وسقوط مبارك مقدمة ونقطة بداية وما يجب أن تفعله بعد ذلك أجل وأخطر فهل سننجح فى قهر العقبات، وتحديد الأهداف، والتوافق حولها، والانطلاق ؟