مع اقتراب السنة 2011 من نهايتها، تكون مرت خمس وأربعون سنة علي انطلاق حركة "فتح". تمثّل "فتح" المشروع الوطني الفلسطيني المتجدد الذي سمح لياسر عرفات الزعيم التاريخي بان يدفن في أرض فلسطين. لم يعد ياسر عرفات بعيدًا عن القدس. إنه يقرع ابواب المدينة كل يوم من حيث هو في رام الله علي بعد خطوات من المقاطعة، مقرّ الرئاسة الفلسطينية. استطاع "ابو عمّار"، علي الرغم من مرور ست سنوات علي رحيله، أن يؤكد ما سبق وأكده في العام 1965 لدي انطلاق "فتح". أراد أن يثبت منذ البداية أن لدي الفلسطينيين مشروعًا وطنيا قابلا للحياة وللتطوير لا يمكن إلا أن يقود إلي قيام دولة مستقلة. في استطاعة ياسر عرفات أن يؤكد ذلك مجدداً الآن، بغض النظر عما أصاب القضية الفلسطينية من تراجع في السنوات الأخيرة، خصوصا منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر- ايلول 2001 وإعلان الإدارة الأمريكية ما يسمي "الحرب علي الإرهاب"، ثم انتقالها إلي الحرب علي العراق. ادت حرب العراق إلي خلل كبير علي الصعيد الإقليمي، مكّنت النظام في إيران من مصادرة القضية الفلسطينية والمتاجرة بها وبالشعب الفلسطيني من جهة وانفلات الغرائز المذهبية، بأبشع أنواعها، من جهة أخري. جعل انفلات الغرائز، الذي يقف خلفه النظام في إيران، المنطقة كلها مهددة بالتفتيت. ولم يعد الخطر محصورا بالعراق بمقدار ما أنه بات يهدد المنطقة العربية كلها. مرة أخري، تظهر أهمية "فتح" كحاجة وطنية ومشروع وطني قادر علي ممارسة المرونة السياسية إلي أبعد حدود من دون التخلي عن الثوابت التي يفرضها الواقع الإقليمي والدولي الذي ليس في الإمكان تجاوزه أو التحايل عليه إلي ما لا نهاية. علي رأس هذه الثوابت خيار الدولتين علي أرض فلسطين. وهو الخيار الذي ترفضه إسرائيل، وحكومة بنيامين نتانياهو بالذات، باسم الاحتلال وتعمل علي تقويضه. ثمة حاجة اليوم إلي "فتح" أكثر من أي وقت كي لا تضيع القضية الفلسطينية في متاهات الوضع الإقليمي وتعقيداته وكي لا تذهب ضحية المتاجرين بالشعب الفلسطيني تحت شعار "المقاومة". ربما كان أفضل اختصار لهذا الشعار الصواريخ "العبثية" التي راحت "حماس" تطلقها من قطاع غزة علي الرغم من الانسحاب الإسرائيلي منه صيف العام 2005. حتي الأمس القريب، كانت هذه الصواريخ، في رأي بعض الأميين في السياسة والعلوم العسكرية، قوة "رادعة". اليوم صار اطلاق الصواريخ، بقدرة قادر، "خيانة وطنية". صار علي "حماس" ملاحقة مطلقي الصواريخ من قوي أكثر تطرفا منها ولدت في كنفها، كي تحكم قبضتها بطريقة أفضل علي قطاع غزة وتغير طبيعة الحياة فيه. تفعل ذلك كي لا يقال إن الاخوان المسلمين فاشلون في تولي السلطة وان لا علاقة لهم بادارة الدول وشئون الناس. بالنسبة إلي "حماس"، أن المشروع الوحيد الذي تؤمن به هو مشروع السلطة، حتي لو كان ذلك يخدم السياسة الإسرائيلية القائمة علي تكريس الاحتلال ولا شيء غير ذلك.. تكمن أهمية "فتح" في أواخر السنة 2010 ومطلع السنة 2011 في انها لا تزال حاجة وطنية فلسطينية وذلك لسببين علي الأقل. السبب الأول، أن لا بديل من مشروعها الوطني، الذي أصبح البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، في المواجهة مع الاحتلال. أما السبب الآخر، فهو أن "فتح" لا تزال قادرة، علي الرغم من ترهَل بعض قيادييها، من التصدي للمشاريع العبثية التي تلتقي بصورة أو بأخري مع المشروع الإسرائيلي. هل من خدمة تقدّم لإسرائيل أفضل من المشاريع القائمة علي الشعارات الطنانة التي يرفضها المجتمع الدولي والتي تجعل هذا المجتمع يقف موقف المتفرج حين تمارس إسرائيل إرهاب الدولة بكل اشكاله وأنواعه ودرجاته في غزة وغير غزة؟ نعم، مرت خمس وأربعون سنة، ولا تزال "فتح" حاجة فلسطينية، "فتح" "أبو جهاد" و"أبو إياد" وأبو الوليد" وآلاف الشهداء الآخرين. وصل الفلسطينيون إلي طرح قضيتهم في العالم بفضل "فتح" التي ناضلت عسكريا وسياسيا واوصلت فلسطين إلي الأممالمتحدة. لا يمكن بالطبع تجاهل الاخطاء الضخمة التي ارتكبها ياسر عرفات في الأردن ولبنان أو موقفه المعيب من الاحتلال العراقي للكويت في العام 1990. كذلك، لا يمكن تجاهل تردده في اتخاذ قرارات حاسمة علي الصعيد الداخلي الفلسطيني عندما كانت هناك حاجة إلي مثل هذه القرارات. ولا يمكن أيضا تجاهل محاولة تذاكيه في أحيان كثيرة علي العرب والأمريكيين والإسرائيليين، وحتي الأوروبيين، في مرحلة ما بعد توقيع اتفاق اوسلو في ظروف لا فائدة فيها للتذاكي. ولكن يبقي أن "فتح" هي الضمانة لاستمرار المشروع الوطني الفلسطيني وحمايته وتطويره وجعله، بالتالي، يتكيف مع المعطيات الإقليمية والدولية ويتعاطي معها. بعد خمس وأربعين سنة من الانطلاقة في 1-1- 1965، لا تزال القضية الفلسطينية علي قيد الحياة بفضل "فتح". لم تتحول إلي العوبة في يد إيران وغير إيران. لا تزال "فتح"، علي الرغم من الخلافات الداخلية القابلة للاحتواء، من نوع ذلك الخلاف القائم بين رئيس السلطة الوطنية السيد محمود عباس من جهة والسيد محمد دحلان مسئول الإعلام في الحركة من جهة أخري، قادرة علي حماية القرار الفلسطيني المستقل الذي تحول هذه الأيام إلي ضرورة أكثر من أي وقت. تلك هي "فتح" التي ستظل ترفع راية فلسطين إلي أن تقوم الدولة الفلسطينية المستقلة "القابلة للحياة". كانت هناك في مرحلة معينة حاجة إلي الكفاح المسلح. كانت الظروف الدولية والإقليمية تسمح بذلك. هناك في مرحلة أخري حاجة إلي الدبلوماسية والسلاح في آن. الآن، هناك حاجة إلي متابعة بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية. هذا ما تفعله "فتح" عبر دعمها الحكومة الفلسطينية، حكومة الدكتور سلام فياض، من جهة ومنع تحويل الضفة الغربية إلي أرض طاردة لأهلها من جهة أخري. إنها تفعل ذلك، عبر حماية أمن المواطن في الضفة الغربية، وهي حماية تصب في حماية للمشروع الوطني الفلسطيني أولا وأخيرًا. إنه المشروع الوحيد القابل للحياة إلي اشعار آخر!