عندما يكون الوضع العربي مهترئا ومهلهلا إلي الحد الذي وصل إليه، لا يعود مستغربا أن تقدم الإدارة الأمريكية إلي الحكومة الإسرائيلية عرضا من النوع الذي قدمته أخيرا. إنه عرض مخيف بكل معني الكلمة نظرا إلي أنه يتجاهل كليا أي ذكر للاحتلال. يركز العرض في المقابل علي استرضاء اليمين الإسرائيلي المتطرف بكل الوسائل من أجل قبول حكومة بيبي نتانياهو بتجميد الاستيطان في الضفة الغربية لمدة تسعين يوما. لا إشارة إلي القدسالشرقية في العرض الأمريكي. هناك معلومات مسربة عن موافقة ضمنية لبيبي نتانياهو علي أن يشمل التجميد المدينة المقدسة. لماذا جاءت الموافقة علي تجميد الاستيطان في القدس ضمنية؟ الجواب أن المطلوب ألا يكون يكون هناك أي إزعاج لليمين المتطرف الممثل في الحكومة. صار مطلوبا مراعاة شعور اليمين الإسرائيلي المتطرف لا أكثر. صارت عملية السلام متوقفة علي ما يريده يمين اليمين الإسرائيلي. صارت عملية السلام رهينة رجل مثل افيجدور ليبرمان وزير الخارجية الذي جاء إلي فلسطين من مولدوفيا حيث كان حارسا عند باب أحد النوادي الليلية. أسوأ من ذلك، صارت عملية السلام أسيرة حزب مثل "شاس"، وهو حزب ديني، لا همّ له سوي ابتزاز الحكومة بغية الحصول علي مساعدات ودعم لمؤسسات تابعة له، علي رأسها المدارس التلمودية! تغيرت إسرائيل كليا. تغير المجتمع الإسرائيلي الذي لم يعد يهمه السلام، بمقدار ما انه بات مأخوذا بالقدرة علي تكريس الاحتلال علي حساب شعب سلبت منه حقوقه وأرضه هو الشعب الفلسطيني. ولكن ما قد يكون أهمّ من التغير الذي شهده الداخل الإسرائيلي، ذلك الضعف الذي تعاني منه إدارة باراك أوباما الذي ينسي أنه علي رأس القوة العظمي الوحيدة في العالم. يأتي التطرف الإسرائيلي والضعف الأمريكي في ظل تراجع عربي لم تشهد المنطقة مثيلا له منذ قيام دولة إسرائيل علي أرض فلسطين في العام 1948 بلغت درجة التراجع في الوضع العربي عموما مرحلة لم يعد فيها من يفرق بين الانتصار والهزيمة. هناك من يتحدث عن انتصار علي إسرائيل في حرب صيف العام 2006 التي انتهت باستشهاد مئات المواطنين وتدمير جزء من البنية التحتية اللبنانية وصدور القرار 1701 في حين صار سلاح ميليشيا "حزب الله" موجها إلي الداخل اللبناني. عاد الوطن الصغير ثلاثين عاما إلي الخلف، وزاد الشرخ الطائفي والمذهبي، وهناك من لا يزال يتحدث عن انتصار. ربما لا فارق لدي البعض بين الانتصار علي لبنان وبين الانتصار علي إسرائيل وأنه يكفي الانتصار علي لبنان والتحكم بالحياة السياسية بالبلد لبلوغ مرحلة يصبح فيها هناك من لا يستحي من الكلام عن انتصار... ما ينطبق علي لبنان، ينطبق أيضا علي فلسطين نفسها حيث لا يزال هناك من يرفع شارات النصر بعد حرب غزة في نهاية العام 2008 وبداية العام 2009 والتي انتهت بتدمير ربع القطاع واستمرار الحصار الظالم. قبل الحرب، كانت الصواريخ العبثية التي تطلق من غزة وسيلة لتحرير فلسطين، كل فلسطين. بعد الحرب، واستشهاد نحو ألف وثلاثمائة فلسطيني وسقوط آلاف الجرحي، صار إطلاق هذه الصواريخ "خيانة"! حصل ذلك بقدرة قادر، ربما لأن التخلص من الاحتلال آخر همّ لدي "حماس". الهمّ الأول يتمثل في السيطرة علي غزة وتغيير طبيعة المجتمع الإسرائيلي تمهيدا للانقضاض علي الضفة الغربية متي صارت الظروف مهيأة لذلك يوما. في حال كان مطلوبا وصف العرض الأمريكي لإسرائيل، فإن أقل ما يمكن قوله إن هناك استخفافا بعقول العرب. ولكن متي يستخف "حزب الله" الذي تقف خلفه إيران بعقول اللبنانيين و"حماس" بعقول الفلسطينيين، هل يصبح مستغربا أن تذهب إدارة أوباما إلي هذا الحدّ في الانصياع للمطالب الإسرائيلية؟ من يضمن أن إسرائيل لن تعود إلي الاستيطان، أي إلي إقامة مستعمرات جديدة في القدس والضفة الغربية بعد تسعين يوما؟ هل نسي باراك أوباما نفسه ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون أن استراتيجية بيبي نتانياهو تقوم علي فكرة التفاوض من أجل التفاوض والعمل في الوقت ذاته علي خلق وقائع جديدة علي الأرض؟ من الواضح، في ضوء الطرح الأمريكي الذي يترافق مع انهيار عربي علي كل المستويات، أن السلام مؤجل. لاسلام من دون دور أمريكي فاعل يضع الأمور في نصابها. هذا الدور غير موجود. أقصي ما تستطيع إدارة أوباما عمله هو ممارسة ضغوط في العراق من أجل تشكيل حكومة تأخذ في الاعتبار المطالب الإيرانية قبل أي شيء آخر من دون أي اعتبار لنتائج الانتخابات النيابية التي فازت فيها قائمة الدكتور أياد علاوي. أين مشكلة علاّوي؟ هل تكمن في أنه يرفض الطائفية والمذهبية ويؤمن بالدور العربي للعراق؟ ربما كان ذلك كافيا لتهميش تلك الشخصية العراقية التي تضع العراق فوق المذهب والطائفة. أما في السودان، فإن كل الاستراتيجية الأمريكية قائمة علي تقسيم البلد عن طريق استفتاء يجري في التاسع من يناير المقبل. حسنا، حصل التقسيم. ماذا بعد ذلك؟ يبدو أن كل ما تريده الولاياتالمتحدة في الوقت الراهن وضع الأساس لقيام دول عدة في الأراضي السودانية الشاسعة. ما تبقي تفاصيل لا أكثر. من ينظر إلي المنطقة من بعيد، آخذا في الاعتبار ما آلت إليه إدارة أوباما والوضع العربي عموما وتحول المجتمع الإسرائيلي نحو مزيد من التطرف، لن يجد سببا لتقديم عرض أمريكي من نوع آخر إلي حكومة بيبي نتنياهو... أمّا عملية السلام، فألف سلام عليها، اقله في المستقبل المنظور! كاتب لبناني