صعب أن يفكّر المرء في إمكانية تكميم أفواه لاتعجبنا، في عصر تتضاعف فيه كلّ لحظة: تقنيات الترابط وتزدهر وسائل التواصل. تخترق كوكبنا شبكات الفاكس والإيميل والمحمول والأقمار الصناعية والفضائيات التليفزيونية والانترنت.. فإذا كان ما حصل هو قوّة للمستقبل، وقدرة للعلم والتكنولوجيا علي الوقوف إلي جانب حرّية الإنسان، فلا يبقي أمامنا إلاّ المشاكل التي تواجه استخدام هذه التقنيات. ويبدو أنّنا لانريد أو لانقوي علي الاعتراف بذلك، كما يشير الحوار الذي انفجر حول إغلاق عدد من القنوات الفضائية الخاصّة. والتقارير اليومية تشير إلي تبادل الاتّهامات، وفيما قالت الحكومة إن القنوات المستهدفة ارتكبت ما سمته مخالفات تصادم آداب وأخلاقيات المهنة اعتبر منتقدون أنّ ما تم يأتي في إطار التضييق علي المعارضة قبيل الانتخابات البرلمانية. والصدام لم يكن مستبعدا علي أي حال، فربّما كانت مصر تعيش أكثر انتقادا ومطالبة لنفسها من فترة مضت. وبعيدا عن المصطلحات ،علي غرار كلمة مقصلة، ومؤامرة علي الحرّية أو حملة تستهدف المعارضة التي تستعد للمشاركة في الانتخابات البرلمانية الشهر المقبل.. الخ ،فإنّ توجيه انذارات لبعض القنوات، ووقف البعض يستحقّ الفحص! والذي يستحوذ علي الاهتمام، أنّه فيما عدا قناة أوربت، فإنّ معظم القنوات التي أوقفت ليس لها محتوي إخباري ولا علاقة لها بالعمل السياسي العام أو التدخّل في الشأن العام. قنوات مثل بدر والشباب والحافظ والناس والصحة يغلب عليها نشر حالة من الجمود علي العقل المصري تحاصر تحرّره وانطلاقه. والبرامج تحتشد بالتمظهر الديني الذي يغلب عليه التطرف ونشر الغيبيات وتغليب الإفتاء بما لايناسب الاحتقان الديني والطائفي. والأخطر من ذلك - ولاينفع أن نصف أو نقول - والأنسب أن تكون شاهدت بنفسك ما يتعلّق بالآراء التي تتّصل بصحّة وحياة النّاس. يستوجب علي الان أن أبرز قيمة المشاهد التي تدّعي الميديا أنّ كلّ شيء هو من أجل سواد عيونه، وأرقام التليفونات، التي تجري خاطفة علي حافّة الشاشة ليبدي رأيه ويتداخل.. ولايكشف النفاق الآن مثل هذه الثورة العارمة باسم الحرّية ! أزعم أنّ هذه الحيوية الدافقة والتي سارعت بقناة الجزيرة إلي أن تعقد دورا إعلاميا طارئا حول ما أسمته " تكميم الأفواه" لم تلق نفس البال لما يسود المجتمع المصري وبالتاكيد العربي أيضا من شكوي واضحة حول أن وسائل الإعلام والفضائيات الخاصّة بشكل محدّد، تتبني خطابا يعزز العنف ويؤجج الصراع والفتنة. وفي أكثر من كارثة طائفية وكروية ومعيشية تتبدّي الانتقادات بل والإدانات. أم أن مستويات العنف والعدوان التي تتصاعد بشكل مقلق في مجتمعاتنا ليست من اختصاص الإعلام وهو بريء تمام من مقدّماتها ونتائجها؟ علي أنّنا لانملك في أي أزمة إلاّ أن ننظر في إخفاقات مجتمعنا، نستحثّ الجهود الدقيقة والمخلصة للجرد الاجتماعي. وفي رأيي أنّه خلال الثلاثين سنة الأخيرة يعكس هذا الجرد مزاجا قوميا، بقدر ما تنغّصه الأحوال المعيشية والتردّي السياسي والاقتصادي والديني، فإنّه يبحث عن التروّي والاتّزان. يكثر من التأمّل في إعلام يتباهي بقدرة المصريين، من زويل في الكيمياء إلي هاني عازر وبناء أعظم محطّة للقطارات في العالم في برلين،بينما يعجز عن الاعتراف بأنّ المستقبل يمكن بل ويجب تخطيطه. لابدّ أن يكون هناك بعض الخيار المتأنّي، الذي بدونه قد يؤدّي القرار الإداري والموقف المعارض له إلي فوضي! توجد دائما الحاجة إلي التجاوب المدروس، والعنف أصبح يؤرّقنا، والشتائم البذيئة في المدوّنات وعلي الفيس بوك تحرّض وتستحثّ علي وسائل للمنع والمواجهة. والمسألة ليست محصورة في رغبة الحزب الوطني في الفوز بانتخابات يجريها علي هواه. ويردّ علينا الدكتور سامي عبد العزيز عميد كلّية الإعلام وعضو مجلس الشوري، بشكل عملي وعلمي بأنّه لم يعد من الإمكان تقييد الحرّية في مصر، ويشير إلي أنّ التقنيات الحديثة اليوم تقاوم وتتجاوز الأشكال التقليدية التي قد يلجأ إليها البعض. والمعضلة كيف ننمّي حيويتنا نحو التزام عميق لفكرة التغيير الديموراطي، والاهتمام لايقتصر علي المثقّفين ولكنّ يشمل رجال الأعمال الذين يقبلون علي امتلاك القنوات والصحف.. وأصبحوا مسئولين عن حالة أمّة لم يبد إلاّ مقدّمة برنامج لإعادة تأهيلها. هل نجد حلاّ للأزمة الأخيرة وكذلك أزمة جريدة الدستور في هذا الإطار؟ ،أرجوكم لاتكرّروا ولا تستسهلوا الحديث عن ميثاق لشرف أي مهنة!