في عام 2003 زار رئيس وزراء إيران - في ذلك الوقت - محمد خاتمي لبنان ويمثل خاتمي التيار المعتدل في الثورة الإسلامية الإيرانية، ولقد لفت محمد خاتمي أنظار العالم بواقعيته واعتداله واستطاع أن يقدم صورة عصرية متحضرة للإسلام يمكن قبولها عالمياً وقد وصل إلي قمته في خطابه أمام الجمعية العمومية في نفس العام بعد مرور عامين من أحداث 11 سبتمبر حيث قدم دعوة للحوار بين الشرق والغرب وتجاوبت معه معظم البلدان الغربية والشرقية. وبعد سبع سنوات من الزيارة الأولي يأتي أحمدي نجاد رئيس إيران إلي لبنان ويحمل دعوة مختلفة تماماً فإذا كان خاتمي دعا للحوار والسلام فقد كانت دعوة نجاد للحرب، وإذا كان خاتمي تحدث بلغة العصر والتي تطورت كثيراً منذ أحداث سبتمبر 2001 فإن نجاد تحدث بلغة الخمسينيات، فقد تحدث في الأممالمتحدة وقبل مجيئه إلي لبنان عن أن أمريكا (المخابرات المركزية الأمريكية والموساد) هما اللذان صنعا أحداث سبتمبر ثم جاء إلي الشرق الأوسط ووقف علي الحدود الإسرائيلية ليعلن أنه لابد وأن يعود كل يهودي إلي وطنه الأصلي. ولقد ذكرنا ذلك الخطاب بخطابات عبد الناصر في الستينيات قبل نكسة 1967 (في اقتحام العقبة قطع الرقبة) وإلقاء إسرائيل في البحر.. الخ. وأيضاً ذكرنا بخطابات صدام حسين عند غزو الكويت وعند استقباله لغزو الجيش الأمريكي، وهي نفس شعارات حماس وحزب الله حتي اليوم. وهي نفس الشعارات التي يرفض ترديدها ملوك ورؤساء الدول العربية حتي أولئك الذين ما زالوا في حالة حرب مع إسرائيل. وهكذا نلاحظ أن هذه الشعارات لا يرددها رؤساء دول مسئولة مسئولية قانونية عن شعوبها ومستقبلهم لكن ترددها جماعات أو حزب بدعوي المقاومة، ولذلك قال أحد المحللين ( إن نجاد يفضل استخدام مفردات المحارب في خطابه علي مفردات الرئيس ولا يتوقف طويلاً عند الأعراف الدولية وضوابط الخطاب) وهذه الشعارات من المستحيل أن يكون لها صدي لدي شعب يدرك معني السياسة، إنها شعارات غير قادرة علي تحقيق شيء علي أرض الواقع. ومن الملاحظ أن استقبال نجاد بلبنان كان استقبالاً شعبياً لم يسبق لبيروت أن نظمته لرئيس دولة قام بزيارتها من قبل حتي أنه كان مفاجأة لأحمدي نجاد نفسه، فكسر البروتوكول ووقف في سيارته ليحي الجماهير مما أحرج الأمن الذي يرافقه، وهذا ما كان يفعله عبد الناصر في الستينيات سواء داخل مصر أو خارجها في الدول العربية وفي دول عدم الانحياز وبعد هذا الاستقبال قدم نجاد خطابين أولهما بقصر بعبدا في بيروت والآخر في الجنوب اللبناني والخطابان متناقضان تماماً، ففي خطاب لبيروت أكد وحدة الدولة اللبنانية وقدرتها علي تجاوز التفرقة وأن الدور اللبناني مهم جداً في المعادلات والتنمية والسلام والاستقرار علي صعيد المنطقة مؤكداً أن ليس في مقدور أحد أن ينكر هذا الدور. ولقد تحدث هنا كرئيس دولة مسئول ثم إنه قام بتوقيع اتفاقات ومذكرات تفاهم في ستة عشر مجالاً منها التعليمي والبحوث التعليمية والإعلام والتجارة الخ.. أما خطابه في الجنوب اللبناني فكان متناقضاً تماماً كما ذكرنا من قبل. أما تحليل المهتمين بهذه الزيارة فقد ألمح البعض منهم إلي أن زيارة نجاد إلي الجنوب اللبناني كان تقليلاً من الشرعية اللبنانية كدولة ذات سيادة، وقال البعض الآخر أن الشعب اللبناني لم يملك الوعي السياسي المطلوب وذلك عندما استقبل نجاد بهذه الطريقة، وهو الرئيس الذي يعاني من مشكلة خطيرة في بلده وهي شرعية حكمه المبني علي الحديد والنار ودكتاتورية دينية وتطبيق الشريعة علي الضعفاء والتراجع عن أحكامها أحياناً بسبب ضغوط خارجية فضلاً عن الأزمة الاقتصادية الطاحنة والتي ما زال الشعب الإيراني يعاني منها أشد المعاناة. أما البعض الثالث فقد تحدث عن الحكم بالخطابات والشعارات والتي تسقط سريعاً مع أول اختبار وهو ما يحدث الآن مع أوباما ولم يشفع لحكام الخمسينيات والستينيات، أما التحليل الأخير فقد تحدث عن الوهم الذي يعيش فيه أحمدي نجاد بأنه رئيس لدولة كبري قادرة علي قيادة المنطقة في تحالف مع سوريا ولبنان وحزب الله متصوراً أنه يستطيع أن يفعل ذلك في غياب مصر والسعودية وهو ما ثبت فشله من قبل لكثير من زعماء المنطقة ومن غيرهم الذين ظنوا أنهم بتحديهم للعالم من خلال خطبهم المثيرة لمشاعر الجماهير بشعارات فضفاضة لا تقوي كثيراً علي الوقوف أمام عوامل التاريخ والجغرافيا والجنوح العالمي نحو السلام والعيش المشترك. ولعلك تلاحظ عزيزي القارئ أنه لا توجد قضية في أي ركن من أركان العالم لم تحسم بعد سوي القضية الفلسطينية، وذلك بسبب الزعماء ورؤساء الدول الذين يستغلونها لأجل الحصول علي جماهيرية والهروب من أزماتهم الداخلية، وعدم قدرة الزعماء الفلسطينيين علي ادراك الواقع العالمي والذي يلهثون وراءه ويصلون دائماً متأخرين بسبب مثل هؤلاء الرؤساء.