وفي المساء نستمع إلي "هليلة" لنكتشف - وبالتحديد أنا الذي أكتشف فالجميع كان يعلم ما ينتظر - أن البضاعة وصلت.. بضاعة إيه يا جماعة؟ بتاعة العيد.. وصلت من مصر "ألم أقل لكم إنها أم الدنيا؟" ساعات ورقية، بمب، صواريخ، حرب أطاليا (نوع من المفرقعات)، ويبدأ الزن علي الأهل طلباً للنقود.. وتضاء سماء القرية بفعل الصواريخ القرطاسية، ويزقزق سكون الليل بحرب أطاليا، أما البمب فكنا ننتظر به حتي صباح أول أيام العيد احتراماً للكبار والعجائز-وما أكثر عجائز القرية الذين امتد بهم العمر إلي ما بعد المائة، بل إن الحاجة "يمن" كان الكل يؤكد أن عمرها تعدي المائة وعشرين عاماً علي الرغم من أننا كنا نراها تمص القصب بأسنانها الخضراء كما يسمونها بعد أن ظهرت لها أسنان جديدة. زيارة المقابر في صباح أول أيام العيد تذهب أمهاتنا لقراءة الفاتحة ترحماً علي موتي الأسرة في المقابر، فيما نأكل نحن المكرونة بالصلصة من بائعة تفترش الأرض، ولم نسمع أبداً عن أحد الآكلين أنه أصيب بسوء من جراء تناوله المكرونة من "الست الشامية" هكذا كان اسمها، ولم يتح لي أن أسأل وقتها عما إذا كانت من أصل شامي كما يقول لقبها أم لا؟ نزهة إلي الحقل ثم نذهب إلي الحقول، نركب "النورج" الذي يديره صاحبه خدمة مجانية ومحبة لأهل قريته، أما "الحمير" ولا مؤاخذة، فعلي قفا من يركب، وتستطيع أن تمتطي ظهر أي حمار- ولا مؤاخذة برضه- دون أن يشخط فيك صاحبه. ونلعب الكرة، والكرة هناك كانت مصنوعة من بالونتين واحدة داخل الأخري، ثم يضعون فوقها بقايا قماش ومن فوق القماش خيوط كثيفة، ثم من فوق هذا كله "فردة شراب" ويصبح عندك كورة أحلي من كور حسن شحاتة! غديوة! أما عن العيد في الأحياء الشعبية في تلك الفترة فقد كانت تحمل طقوس وعادات الأجداد- ومن أهم سمات ذلك، أن الأطفال كانوا يشاركون مؤذني المساجد في تكبيرات العيد طوال ليلة العيد، في حين يسهر كثير منهم أمام منزل أحدهم وهم يفترشون السجاد في الشارع، ويتطوع كثير من الأمهات بإمدادهم بأطباق الكعك والترمس وأكواب الشاي- قبل تغلغل المياه الغازية حالياً كمشروب رسمي للمصريين! ويقضون ليلة العيد في سرد الحكايات والطرائف المضحكة، المهذبة، حتي إن الأمهات والفتيات دون سن الزواج كن يتسلين بحكايات الأبناء أسفل النوافذ الطينية، وهن يقمن بما يسمي تنظيفة العيد، وكانت تستمر طوال الليل، حينما يحلو للأمهات تغيير أماكن الأثاث كنوع من التفاؤل ولإضفاء جو البهجة علي الأسرة، وخاصة الأب الذي دفع "دم قلبه" في ملابس و لوازم كعك العيد. صباحك عيد في صباح يوم العيد يحرص الأبناء علي أداء صلاة العيد إلي جوار الآباء وهم يرتدون ملابس العيد الجديدة. بعدها يبدأ التزاحم علي شراء ألعاب العيد من مسدسات بلاستيكية، وفئران "بتمشي"، هذا قبل وصول ألعاب الكمبيوتر و"البلاي ستيشن" و " الوي " ، ثم ركوب عربات الكارو إلي الحدائق العامة، أو إلي شاطئ النيل للفوز برحلة نيلية، أوالذهاب إلي منطقة الأهرامات بفضل عيدية الأهل والجيران.. هذا هو عيد مصر. البلاك بيري! كان هذا هو عيدنا.. أما الآن فهو عيد التجمع أمام المول، والعيدية بالرنات و"الماسدجز"، والسهر أمام الدش حتي الصباح، والتجمع عبر "الشات" و"النت كافيه". اعرفوا ماضيكم مرة أخري.. قد يكون عيدكم أيها الشباب الجميل أجمل، وقد تكون متعتكم أعمق، ولكن من حقكم علينا أن تعرفوا كيف كان عيد آبائكم.. وعليكم أن تختاروا.. الاختيار ليس صعباً فقط، بل هو مستحيل، لأن الزمن لا يعود أبداً إلي الوراء.. قد تعود البيجاما لتصبح هي موضة ليلة العيد، ربما إذا ارتداها أحمد عز أو منة شلبي في فيلم سينمائي، وقد يعود "حرب أطاليا" وتسمح به الحكومة بعد أن خلده أحمد السقا في أحد أفلامه، ومن حسن حظنا أن الكعك لا يزال علي قيد الحياة.. حتي عربات "الكارو" أحياناً تلمح واحدة شاردة منها الي جوار توك توك هربان من لجنة.. ولكن الذي لن يعود هو.. طفولتنا نحن، مثلما لن يعود ظلام القرية وبراءة أهلها الطيبين. يا نيلنا ميتك سكر وزرعك في الغيطان نور تعيش يا نيل و تتهني ونحيي لك ليالي العيد