يسأل المؤلف يورجان هابرماس في بداية كتابه "المعرفة والمصلحة" سؤالا يبدو بسيطا هو: كيف يمكن أن نحصل علي معرفة موثوقة؟ ويبدأ الفيلسوف الألماني طوال فصول الكتاب الصادر عن سلسلة الفكر التابعة للهيئة العامة للكتاب في تحليل مفهوم نقد المعرفة - باعتبارها أداة ووسيلة في ذات الوقت - عند هيجل وكانت ونيتشه، ويري أن النقد عموما يتطلب بطبيعة الأمر قدرات معينة يندمج فيها العقل العملي الجدلي مع ملكة التأمل. لقد طالب هيجل بالتأكد من شروط "المعرفة الممكنة"، وذلك عبر الشك الذي لا يعترف ب"المعرفة المطلقة" ولا حتي "المنجزة"، لكن هذا المسار الذي سلكه هيجل في نظر مؤلف الكتاب لم يبرهن علي صحته، وظلت المعرفة المطلقة معقولة إذا ما تعلق الأمر بتطور النوع البشري والطبيعة. ولهذا يعود هابرماس لسؤاله الأول بسؤال آخر ينقضه: كيف يتسني لنا الوثوق من المعارف وهناك حقائق لا تظهر في تفسيراتنا، كما أن النقد ذاته يتطلب معرفة؟ يعرف المؤلف عملية الشك بأنها "لحظة للعقل"، وهو هنا يتحدث عن "الشك المنهجي" أو "الجذري" لأنه "الوسيلة التي يتأسس فيها الوعي اليقيني"، ويفرقه بذلك عن "الشك الراديكالي" الذي يتحول إلي "موقف نقدي" مجرد، لا يحتاج إلي تقديم تعليل ولا التدريب عليه، وهذا في رأي المؤلف "بداية اللامشروطية في نقد المعرفة". وهذه هي "الحلقة المفرغة" للمعرفة أو "الإشكالية" أو "التناقض" الكامن في المعرفة كما يحللها الكتاب، وجزء من تجليات ذلك التناقض أن نقد المعرفة يعتمد بطبيعة الحال علي اليقين الحسي والوعي الطبيعي ثم تأتي الخبرة، من منطلق أنه يجب علي الإنسان أن يعرف لكي يستطيع أن يتعرف، وهذا هو مكمن حركة التأمل في الفلسفة النقدية، يقول المؤلف: "تجربة التأمل ترسخ تلك اللحظات المتميزة التي تري وتدرك فيها الأنا نفسها من فوق كتفها". عندما يتحدث المؤلف عن المعرفة، يقصد المعرفة التي تتجلي كعلم، فيتحدث عن العلوم الطبيعية وعلوم الروح والعلوم الخاضعة إلي نواميس وقوانين والعلوم التجريبية التحليلية، ويأتي من ضمنها علي ذكر علوم الرياضيات والفيزياء بوصفها "الصيغة النمطية لمسار أكيد للعلم". ولهذا تصلح مضامين الرياضيات والفيزياء في نظره كمعرفة موثوقة ولها مصداقيتها. بينما الميتافيزيقيا فتزعم لنفسها اسم وصفة العلم، بينما هي تطرح مفاهيم بلا معني. وهنا يبدأ دور "كانت" الذي طالب ب"أن نحقق ثورة كاملة في مجال الميتافيزيقيا بواسطة عالم الهندسة والباحث الطبيعي". من شروط المعرفة الممكنة التي يفندها الكتاب، التمييز بين العقل النظري والعقل العملي، فالتجارب التي تصادف الإنسان إنما هي سلبية ما لم يستتبعها تحطيم للثوابت وتدمير للإسقاطات، ثم ينتقل المؤلف إلي مفهوم "مصلحة المعرفة"، يقول إن هناك مصالح توجه العلم والمعرفة سيكولوجيا، وهذه المصالح مكشوفة في الأغلب، ويبرع علم التحليل النفسي لدي فرويد في كشفها، والمصلحة هنا تعني إنتاج معرفة "فاعلة عمليا ونافعا تقنيا، ولها وظيفة في علاقات الحياة والوجود والحفاظ علي النوع البشري"، معرفة تقود إلي خلود النفس والإيمان بوجود الله كمسلمة. عملية تأمل المعرفة يعرفها المؤلف ب"حركة تحرر" يقف فيها العقل في وقت واحد مع المصلحة، أي يتحد العقل النظري مع العملي، أما المصلحة فهي "الرضا العملي" الذي تحققه معرفة ما، وهي مقدرتنا علي التمني، لأن المصلحة إما تشترط مسبقا احتياجا ما أو أنها تنتج احتياجا ما، وأبسط المصالح التي نبتغيها من أي معرفة هي "مصلحتنا باتباع القانون الأخلاقي". لكن في النهاية لا ينسي المؤلف التأكيد علي أن علاقات الحياة هي علاقات مصالح، فهناك مصلحة حفظ الذات ومصلحة إشباع الحاجات، لهذا تظهر المصلحة في بعض أجزاء الكتاب بمصطلح آخر هو "الدافع". بخصوص نيتشه فهو لم يعترف بوظيفة تأمل المعرفة، كتب ذات مرة: "نحن علماء النفس لدينا القليل من الإرادة لمراقبة الذات، هذه علامة انحطاط بالنسبة لنا، لأننا نحن أدوات المعرفة ونريد أن نمتلك من السذاجة التي تملكها الأداة بحيث لا يحق لنا أن نحلل أنفسنا ولا أن نعرف". وعليه يعرف نيتشه المعرفة بأنها جهاز تجريد وتبسيط الأهداف والوسائل بعيدا عن المفاهيم، لأن الوحيد المختص بهذه الأخيرة هو العلم الذي يهدف إلي تحويل الطبيعة إلي مفاهيم بغرض السيطرة عليها، كذلك من وظيفة العلم أن يهيء لنا عالما يصبح فيه وجودنا ممكنا، عالما قابلا للتبسيط والفهم.