في الفقرة الأولي من كتابه (فجر)، كتب الفيلسوف الألماني " نيتشه " (1844 - 1900) : "كل الأشياء المعمرة، كل الأشياء التي تعيش زمنًا طويلاً، يغطيها العقل شيئًا فشيئًا إلي درجة أنها تنغمس فيه كليا فتبدو كأنها عقلانية خالصة. ويصبح أصلها أو منشؤها اللاعقلاني شيئًا لا يمكن تصوره. ألا يبدو الكشف عن التاريخ الدقيق لأصل ما، وبشكل شبه دائم تقريبًا، إما أنه غير قابل للتصديق، وإما أنه تدنيس للمقدسات؟" تعني كلمة - Généa في اللغة اليونانية "الأصل" بينما تعني كلمة - Logos "العلم"، أما الفعل - Genealogein فيدل علي ذكر الأصول وتعدادها. وقد أصبحت الكلمة المركبة - Genealogie تدل بصفة عامة، وفي معظم اللغات الأوروبية علي سلسلة من الأسلاف تربطهم قرابة ونسب، يفترض أنها تنحدر من أصل مشترك واحد. وتشكل تلك السلسلة شجرة النسب لأسرة أو لشخص ما، كما تدل في الوقت ذاته علي العلم المتخصص في البحث عن أصول ونسب العائلات.(1) وهو ما يشير منذ البداية إلي أن هناك اختلافا فلسفيا بين مفهومي "البدء" و "الأصل" كما يقول عبدالسلام بنعبد العالي: فالبدء - وهو القائم علي معني الحد والعتبة - يجيز التأريخ والترقيم والتقويم، ويجيز تحديد الزمان والفعل وحركته في المكان، كما يجيز أيضًا التحقق المنطقي من صدق فكرة ما، كمبدأ "الكوجيتو الديكارتي" مثلاً. أما مفهوم "الأصل" فمن المحال معه التحقق من أية بداية ومن أي حد، إنه مجرد نموذج احتمالي يمكن الارتداد به في الزمان إلي ما لا نهاية، أي يمكن أن نمثله في "نقطة لا سمك لها" نرسمها علي منحني الزمان، وننتقل بها إلي أي "مكان" من الخط لتفصل بين ما يعتبر تاريخًا مكتوبًا ومعلومًا وبين ما هو أصل غابر، الأصل في النهاية ليست له بداية قارة، وحركة الاستدلال فيه وعليه تأليفية، فهي تضيف إليه موجودات لم تكن في "حدّ" هويته الأول. مفهوم الأصل يكون في الفلسفة من أجل الاستدلال علي النشأة والتكوين، أي علي التفرع والتمايز والاختلاف.(2) وأغني القرن التاسع عشر دلالات مفهوم "الأصل"، فقد اكتسب مضمونًا جديدًا في مؤلفات عالم البيولوجيا الإنجليزي "تشارلز داروين" (1809 - 1882) خاصة كتابه "أصل الأنواع" - The Origin of Species عام 1859، الذي أكد فيه: "إننا لو تمكننا من معرفة شجرة أصول الجماعات البشرية، فسيكون في مقدورنا أن نستنبط الشجرة التي تربط اللغات" ولم يحاول أحد كما يقول سفورزا - أن يقوم بهذه المهمة حتي عام 1988. يقول داروين: "أن النظام الطبيعي (للتقسيم) نسبي في ترتيبه، يشبه شجرة النسب، وقد يكون من المفيد أن نوضح فكرة التقسيم هذه بأن ننظر في قضية اللغات. لو أننا تمكن من شجرة نسب مثالية، فإن ترتيب أنساب سلالات الإنسان سيوفر أفضل تقسيم للغات المختلفة التي يتحدث بها البشر اليوم في أنحاء العالم، ولو أننا أدرجنا كل اللغات المنقرضة، وكل اللهجات المحلية والوسيطة التي تتغير ببطء فسيكون مثل هذا الترتيب هو الوحيد الممكن"(3) وأثرت نظرية داروين في أصل الأنواع الحية وتطورها تأثيرًا واضحًا علي الفكر الفلسفي الغربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتي أن نيتشه نفسه قد جعل منها عنوانًا لأهم كتبه: "أصل الأخلاق" Zur Genealogie der Moral عام 1887. اللافت للنظر هنا ، سواء مع داروين في ميدان البيولوجيا، أو مع نيتشه في ميدان الأخلاق، هو أن دلالة مفهوم الأصل أصبحت لها وظيفة (نقدية) وكأنه يبدو أن الغاية الأعمق "للجنيالوجيا" - Genealogie ليس البحث عن "النشأة" أو "الأصل" فحسب ، وإنما تذكير الإنسان أساسا بأنه كائن متناهي، وبأن مقوماته الأخلاقية والثقافية لها تاريخ ، وبالتالي فهي ذات طابع "نسبي". الهوامش: 1 - ج. هيو سلفرمان: نصيات بين الهرمنيوطيقا والتفكيكية، ترجمة: حسن ناظم وعلي حاكم صالح، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء - المغرب، ط 1، 2002،: ص 317 و 318. وأيضًا: عبد الرازق الداوي: الجنيالوجيا وكتابة تاريخ الأفكار. في http://www.al-atheer.com 2 - عبد العزيز لبيب: آخر العصر الكلاسيكي، مجلة فضاءات، العدد الأول، المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، الجماهيرية الليبية، 1994. 3 - لويجي لوقا كافاللي - سفورزا: الجينات والشعوب واللغات، ترجمة: أحمد مستجير، المشروع القومي للترجمة (205)، المجلس الأعلي للثقافة، 2000، ص - 178 و 179 .