هابرماس، المفكر الألماني الشهير، كان حائطاً آخر يقف بيني وبين أدعياء الفوكالدية. هابرماس لديه تعريف مثير للرأي العام لم أقتنع بوجاهته، فهو يعتبر أن سلطة الطبقة البرجوازية وحدها كفيلة بخلق رأي عام قوي، يري أن الشعب الجاهل يجب إقصاؤه من ساحة الرأي ويستند في ذلك إلي تاريخ نشأة الرأي العام في أوروبا الحديثة من خلال حلقات القراءة والنوادي الأدبية وما شابهها. قضيت شهراً أو يزيد في تفنيد هذا الرأي وقدمت ورقة بحث عن فكرة الحرية عند هابرماس وقيمتها من خلال نقد المفكر الماركسي ماركوز لمبدأ الحرية وتأكيده علي كونها (في السياق الألماني) ترجع لجذور دينية بروتستانتية لم يفلت من أسرها ماركس نفسه. وخلصت إلي أن ساحة الرأي العام عند هابرماس ليست مكاناً لممارسة الحرية بقدر ما هي موقع لتحجيمها والسيطرة عليها وفرض الشروط والقيود علي مسارها من منطلق ليبرالي طبقي موال لسلطة الدولة والدين. بدا بما لا يقبل الشك أنني لن أنتمي يوماً لتلك الجماعة الكيبكية الفوكالدية الهابرماسية المنعقدة في جامعة أوكام. ظننت لوهلة أن الانتماء الفكري أو عدمه لا يفسد للود قضية، لكني كنت مخطئة. فالود كان مشكوكاً فيه من البداية، والثقة تم سحبها مع كل كلمة نقد أو سؤال يشتبه فيه المراجعة من جانبي، واعتبرت في النهاية شخصاً يقول ما لا يعرف، مخرفاً علي الأرجح، أو مدعي ثقافة علي أهون تقدير. أعراض البارانويا والانهزام تزداد يوماً بعد يوم. يوم الجمعة، يوم لقائنا مرتين شهرياً، أصبح يوماً ثقيلاً، يحتاج لاستعداد نفسي هائل لمواجهته. أذهب وأنا أجرجر أقدامي، وأعود بخفي حنين، وكأني نسيت ما تعلمته، نسيته بلا رجعة. يوماً بعد يوم أزداد شعوراً بكوني امرأة عربية، مهاجرة، مدعية، متلعثمة، شكاكة، تخونها اللغة رغم طلاقتها، كأني فقدت القدرة علي الكلام أو كأني أحتاج للبداية من جديد، للتأقلم مع المعرفة من جديد. تم الحكم سراً بأني دخيلة علي فوكو وهابرماس وعلي الفكر الغربي برمته، وكانت هزة الرأس المعتادة والابتسامة الصفراء تعلو الوجوه كلما أشرت لابن خلدون أو الفارابي. ابتسامة المصاب بجنون العظمة وهو يقارن نفسه بمن يعتبرهم خارج نطاق الفكر، مجرد "حكماء" من عصور قديمة، واجهة لحضارة اندثرت ونسيها أصحاب الحضارة الحالية عن عمد. أزداد صمتاً ويتضاءل وجودي أمام فصاحة هؤلاء العلماء الصغار، المتفرغون باستعلاء للقراءة والعلم، أساتذة المستقبل الجهابذة، الذين جمعوا بعبقرية فذة بين عمق الفكر وبين النضال من أجل ثقافة وهوية وحرية كيبك. كنت أشك أحياناً، وكانوا يؤكدون دائماً. كنت أتوه وكانوا يعرفون طريقهم، كنت أرتبك وأتلعثم قبل أن تظهر من بين الأفكار الكثيرة السائدة فكرة مضيئة وجريئة ومخيفة، وكانوا ينظمون العالم كل جمعة ويستريحون كل سبت ولا يخافون أبداً. ذكرت ذات مرة دولوز باعتباره فيلسوف المكان، فيلسوفاً شرقياً قريباً من أفكاري ومن ثقافة الأدب المقارن التي تفتح عليها ذهني في كندا، ثقافة نيتشه ودولوز ضد كانط وهيجل. سخر الأستاذ وسألني عما يعجبني في كتابات هذا الفيلسوف "الهراب" (مشيراً لقانون الحركة عنده ولفكرة انتزاع الجذور). قال إن من يقرأه يشعر أن كل شيء يفلت من بين يديه، يهرب، يتبخر. أجبته بسؤال بسيط يطرحه دولوز في شرح وتفصيل "الترحال" يقول: هل ثمة وسيلة لتخليص الفكر من نموذج الدولة؟ يقصد سحبه بعيداً عن كل بنية ثابتة، وعن كل نظام سلطوي. يقول إن الفكر يستعصي علي الثبات، يرتحل ويقاوم ويتحول لماكينة حرب، لا يخضع لدولة ولا لأرض ولا لجماعة. الفكر قبلي، صحراوي، متحرك، محلق، ضد قانون الجاذبية، خاصة جاذبية الدولة. هز البعض أكتافهم وقال طالب فرنسي متعجرف إني عاجزة عن تقديم أي نقد حقيقي لدولوز. لم أفهم، آنذاك، أن الطالب كان يسعي للانتماء. طالبة عربية، وحيدة، خجول، كانت تنصت باهتمام لما أقول وكان تشجيعها الدائم لي يزيدني توتراً، يضعني بما لا يقبل الشك في نفس المعسكر معها، معسكر المرأة العربية التي لم ترق بعد لمصاف الباحثين الدوليين. كنت أشعر بالامتنان لها والحنق عليها في الوقت نفسه، ولم يكن هناك مفر من أن نتصادق في حدود، وبقدر من الحذر من جانبها، فقد كانت تعي أيضاً أهمية انتمائها للجماعة. رفض مشروع المهرجانات السينمائية الذي تقدمت به لجهات تمويل البحث العلمي في كندا. بلغني الخبر في مارس أثناء العام الدراسي. كنا نستعد في تلك الأثناء لتقديم أبحاثنا الفردية داخل المجموعة للمشاركة في المؤتمر العلمي الكبير المقام في مونتريال في مايو. قدمت بحثاً عن وظائف الرأي العام وأدواره المتعددة، مستخدمة نقد دولوز في كتابه "ما الفلسفة" لفكرة الرأي العام (ودولوز معروف عنه أنه معاد لمدرسة هابرماس) وختمته بالإشارة لفكرة الضيافة عند جاك دريدا والتي قد تصلح لأن نتعامل بواسطتها مع ساحة الرأي باعتبارها مكاناً لاستقبال الضيف بلا شرط، مكاناً مفتوحاً بحق أمام "الرأي"،أمام "الفكر الرحال" المدعوم بالحجة. بالطبع لم ينشر البحث ضمن أبحاث الجماعة. قيل لي ضمن حيثيات الرفض إن البحث يتصف بالجدل، بمعني أنه لا يستند إلي فكر رصين. وكانت ثمة شماتة مستترة في خطاب الرفض، تشبه شماتة الموظف الذي يتوهم أنه ضيع علي صاحب الفكر فرصة الاستقرار في حضن المؤسسة. هناك بما لا يقبل الشك قدر من جنون العظمة في موقف الجماعة، قدر من الشعور بالامتلاء والزهو لكونها "ثورية" بمعني من المعاني، تنتمي لجامعة ذات سمعة تقدمية، أنشئت ضمن حركة الطلاب الثورية في العالم وتأكد دورها مع قيام الثورة الهادئة في كيبك في الستينيات. ما أريد قوله هو أن إحساس الأقلية الكيبكية بالاضطهاد في مقابل الأكثرية الأنجلوساكسونية يوازيه إحساس نفس هذه الأقلية بالعظمة في مقابل الأقليات الأخري من المهاجرين أمثالي. بارانويا مضاعفة إذن، متحققة بشكل غريب، بشقيها، ولأسباب تاريخية يطول شرحها.