الزمان الذي أقصده غير بعيد، خمس وعشرون إلي ثلاثين سنة مضت. الثمانينيات تحديدا، بحساب امرأة ولدت في منتصف الستينيات. زمان فيه من البهجة وخلو البال ما يجعلني أهفو إليه وأسخر من نفسي كلما استدرجني الحنين إلي متاهته. ساذجة تلك المشاعر عادة. ومخيفة لأنك لا تدري من أين جاء العطب ولا كيف استقر وتفرع. حتي عادة التحسر علي الماضي التي تحاصر أبناء برج السرطان مثلي أصبحت سخيفة لكثرة ما واجهت نفسي بها. متي أكبر؟ وما الحدود بين الكتابة عن لهو الطفولة مثل الأطفال وبين الكتابة عنها مثل الكبار، سارتر، نتالي ساروت؟ لعلني بتكرار المحاولة أكبر فعلا، إذ من المفترض أنه كلما تقدم العمر نكصت الذاكرة إلي السنوات الأبعد ونضجت الخبرة بالكتابة. المسألة مبعث شك دائم، حتي أكثرنا خبرة بكتابته وأكثرنا تعنتا في تقييم كتابة الآخرين يسقط بجدارة في فخ المشاعر والحنين. أقضي الصيف في النادي الرياضي بصحبة أختي أو بدونها. الحدود بين الأولاد والبنات وما يصاحبها من أسرار ومخاوف وغرائب تنهار ما أن أتحدث وجها لوجه مع "ولد". يلعب معي الاسكواش، أو يسبح معي في حمام السباحة. أكتشف أن ما تقوله البنات عن الأولاد مجرد وهم أو مزحة أو خيال، الأولاد بنات مثلنا، حتي وهم يدعون الخشونة والمعرفة ويفترسوننا بأعينهم كأنهم يهددوننا بشيء مخيف لا نعرف هل هو رغبة حقيقية في التقارب أم مزاح ثقيل من قبيل إثبات الذات. لكننا كبنات نعرف أكثر مما يتصورون ولا نشعر بتهديد من جانبهم، نشعر بعد الحديث والمواعيد والجولات المتكررة حول البيسين وشرب الكوكاكولا في المبني الاجتماعي أنهم من الهشاشة والخفة بحيث لا يمكن أن يخيفوا بعوضة. حتي طريقتهم في الثرثرة وحماسهم في متابعة متشات الكرة وتنافسهم علي بنت في حلبة الرقص تبدو لنا أمورا بسيطة، عادية، وأحيانا مضحكة ومثيرة للشفقة. محاولات الاستئثار بالاهتمام في حضرة بنت، أي بنت، الخجل الذي يمنع بعضهم من البوح بمشاعر الحب الوليدة والتريث الذي يتصف به أعقلهم وأكثرهم خبرة، طرق الصيد وتدلل البنات وغمزات المتفرجين وثرثرتهم المتجددة عن علاقات نشأت وأخري انتهت في طرفة عين، تكون شلة الأسكواش في منتصف الثمانينيات في مقابل شلة المدرسة التي ورثتها من سنوات الطفولة، وأختي الصغري بصحبتي تنشب أظافرها الطرية في كل من يحاول مشاكستي وتدافع عني بشراسة بنت شقية في العاشرة من عمرها، كل الأحداث والصور والمشاهد والأصوات والروائح، كل هذا، يطفو مثل قنديل البحر ويتشكل في كل مرة مثل الهلام، ينفرد وينثني، يلين ويميل مع الموج، يرسو علي الرمال ثم يرحل عنها تحمله موجة عالية لقلب البحر من جديد. الحب زمان كان بهذه السذاجة والعفوية والشوق لتكرار اللحن بنفس النغمات ومع نفس النوع من الأشخاص، الحب كان يحدث في الصيف وينتهي بانتهائه، لأن الانشغال بالدراسة يمنعنا من الذهاب إلي النادي وملاقاة الأصحاب بانتظام، يثنينا عن محاولة تجديد العهد. أيام الجمعة نعود لصالة الاسكواش وللتندة التي تظلل الكراسي، نستريح تحتها بعد التمرين ونشرب مشروبا منعشا، نضحك ونتكلم ونراقب العدائين الذين يقومون بالتسخين قبل التمرين وهم يلفون حول التراك مرة أو مرتين. بين لحظة وأخري يسقط ضوء الشمس علي جانب وجه من وجوه الأصحاب فيبدو جميلا في عيني ويدق قلبي دقتين، وبين طرفة عين وأخري يعود صاحب آخر من التمرين وقد برزت عضلات ذراعه فيبدو قويا بدرجة مثيرة، وبعد قليل يخرج ثالث من الدوش فيفوح عطره الثمين ويحيطه بهالة من الثقة والشباب، وأتمني في عقلي أن يجتمع الوجه بضيائه العابر والذراع المفتولة والعطر الفواح في شخص واحد، شخص واحد فقط، ربما أحببته ببساطة وبلا مجهود. كل شيء في تلك الفترة من العمر يخضع لقانون الكسل الشديد والنشاط الزائد، بينهما شد وجذب مستمر، حتي الحب، ينشأ فجأة ثم يصيبنا الكسل في متابعته بالفتور والاستغناء. لم أذق لذة في حياتي مثل لذة النوم المتأخر والصحو بعد خروج أمي للعمل إلا بعد دخول الجامعة. أصبح للكسل معني آخر وللنشاط الليلي بهدف القراءة والمذاكرة مبرر. انتهت سنوات المدرسة وبدأت سنوات الجامعة الأكثر عنفوانا وتفتحا، لا يضبط إيقاع تلك السنوات روتين محدد ولا تخضع لمراقبة دقيقة من ناحية الأسرة كما كان الحال أيام الدراسة الإعدادية والثانوية. وتغير احساسي بنفسي بعض الشيء. لم أعد البنت المسترجلة التي حافظت علي شعرة رهيفة بين أنوثتها ونكرانها لهذه الأنوثة، أصبحت أميل لإبراز طبيعتي كامرأة شابة وإن كانت طبيعة التربية التي نشأت عليها تتغلب في بعض الأحيان. بدأت الجامعة وأنا أعرف أن الأولاد مثلي مثلهم لا فارق بيننا سوي صلابتي في مقابل هشاشتهم، صلابة تأتي من نشأتي بين أخين ومن اهتمامي بالقراءة والفنون مثلا، وهشاشة تأتي من سذاجة الاهتمامات العامة لدي الأولاد وتركيزهم المزعج في مسألة اصطياد البنات. قلما وجدت من يشاركني الاهتمام بالأدب والفن بين أفراد الشلة، شلة المدرسة من البنات وشلة النادي من البنات والأولاد، وإن كان لبعض الأصحاب في تلك المرحلة دور في تعريفي بأنواع من الموسيقي الكلاسيكية، أو زيارة المتاحف وحضور الأفلام في المهرجانات الدولية. تعذر الحب قليلا عند المرور من المدرسة إلي الجامعة، وبعد أن كان لعبة أتسلي بها، أصبح شرطا من شروط العبور لعالم الكبار. أصبحت أكثر انتقاءً وأميل لتصور الحب باعتباره الطريق للخطوبة والزواج. طريق متعثر ينفتح وتحفه المخاطر، لم يعد منطق الفراشات مجديا كما كان من قبل، ولم يعد الحب لعبة، ثم اكتملت حالة الاستقرار في الحب مع نهاية عقد الثمانينيات ونهاية الدراسة الجامعية، بعد محاولات كثيرة للعثور علي الزوج المثالي، رفيق الروح.