في حلقة سابقة أشرنا إلي تداعيات حريق مكتبة السفارة الأمريكيةبالقاهرة وأسقاط طائرة لإحدي شركات البترول الأمريكية، علي العلاقات المصرية الأمريكية خاصة السعي لمعاقبة مصر بمنع المساعدات الغذائية الأمريكية لها. وذلك طبقاً لرواية السفير، لوسيوس باتل سفير أمريكا بالقاهرة. كانت الخارجية الأمريكية مستاءة من السفير ويقول إنه كان مستاء منها أيضاً فقد كان يعتقد أن الوقت غير مناسب لإثارة الصحافة «الأمريكية» موضوع المساعدات لمصر علي ضوء الأحداث الأخيرة. أفرجت الإدارة الأمريكية عن شحنات للقمح لمصر بالرغم من اعتقاده أنه لم تكن هناك حاجة ماسة إليها في هذا الوقت، وكان يري أن ذلك خطأ. كانت الصحافة الأمريكية في حالة هيجان بعد إسقاط الطائرة وإحراق المكتبة الأمريكية ولذلك فإن الموضوع كان يمثل مسألة حساسة للرأي العام الأمريكي. إلا أن إدارة الشرق الأدني في الخارجية الأمريكية قررت الإفراج عن الشحنات وهو أمر سبب ضيقاً للكونجرس الأمريكي وللصحافة والكل كان يريد ايقاف الشحنات حتي يتم التحقق فيما جري في الحادثين بصورة مرضية. الكونجرس كان يريد عقد جلسات استجواب علنية وكانت الخارجية الأمريكية قلقة لأن ذلك يعني أن علي السفير أن يمثل أمام الكونجرس للإدلاء بشهادته. ولذلك فكرت المسئولة في هذه الإدارة «كاي فولجر» في أن يحضر إلي واشنطون في عطلة تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد وعلي ذلك لن يكون هناك أي شخص لمقابلته لانشغال الجميع بالمناسبة. وقبل سفره أبلغ الحكومة المصرية أنه قد استدعي إلي واشنطن للتشاور وهو أمر علم به محمد حسنين هيكل الصحفي المصري الذي قابله مرة واحدة من قبل بعد وصوله أثناء حفل عشاء صغير علي شرف السفير باتل وزوجته. يقول السفير باتل إنه اتفق بعد وصوله القاهرة مع كل رئيس بالسفارة علي أن يقوم بتنظيم عشاء أو حفل استقبال صغير علي شرفه يدعو إليه أصدقاءه من المصريين للتعارف معهم. وفي العشاء الذي أقامه دونالد برجس ( الذي رأس قسم رعاية المصالح الأمريكية في القاهرة بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بين مصر والولاياتالمتحدة عقب حرب 1967 ) كان مقرراً له أن يتم في الثامنة والنصف، وكان هيكل وزوجته من ضمن المدعوين. ولكنه لم يظهر حتي التاسعة والنصف مساء ولذلك بدأ العشاء دونهما لأن ذلك كانت عادة بين المصريين في التأخر. عندما بدأوا في تناول الطعام وصل هيكل وقابله بعد العشاء وسأله هيكل عما إذا كان قد قضي بعض الوقت في الشرق الأوسط فأجابه السفير ب« لا» ثم سأله مرة أخري عما إذا كانت له أي خبرة خاصة بالمنطقة فنفي ذلك ثم سأله عما إذا كان يتحدث العربية فأجابه بالنفي أيضاً. وهنا ذكر هيكل «الحمد لله» مما دفع السفير لكي يقول له إنه لا يفهم. قال هيكل: إن الأمريكان الذين يظنون أنهم يتكلمون العربية هم في الحقيقة لا يستطيعون النطق بها، وعندما يبدأون في ذلك يعتقدون أن في استطاعتهم أن يضعوا أنفسهم مكان المصريين ويفكرون كما يفكر المصريون.. وأضاف: نحن المصريين لا نفهم أنفسنا فكيف يمكن للأمريكي أن يفعل ذلك؟.. ضحك السفير وفهم من هيكل أنه لم يكن يحب السفير الأمريكي السابق جون بادو، وبعدها أصبح هيكل - كما يقول السفير باتل - «أقرب صديق له بمضي الوقت وساعدته في الكثير من الأمور» قبل سفر السفير باتل إلي واشنطون طلبه هيكل وقال إنه يرغب في الحصول علي موعد عاجل لمقابلته. ولذلك دعاه السفير إلي العشاء بمفردهما فقط. رشف هيكل ملعقة واحدة من الشوربة وقال علي الفور: يبدو أنك قمت بتغيير الطباخ في السفارة «وعندما اقر باتل بذلك، قال هيكل إنه عرف ذلك لأن الشوربة أفضل من ذي قبل، مضيفاً أنه لم يزر منزل السفير مرات عديدة في السابق. رد عليه السفير أنه يفهم من ملاحظاته أنه يريد أن تتم دعوته مرات أكثر من ذي قبل من أجل إجراء حوارات عميقة بين الحين والآخر، فأجاب هيكل أنه يرغب في ذلك كثيراً. رد عليه باتل بأن ذلكم مناسب بشرط اتباع إجراءات معينة: أولاً لما كان هيكل يتفاخر في كل القاهرة أن كل السفراء هم الذين يتصلون به فإنه - أي السفير باتل - لن يفعل ذلك. وأنه - أي هيكل - أبقي السفير البريطاني في انتظاره وهذا أمر لا يمكن أن يحدث معه ولن يذهب لمقابلته ولذلك فإنه لم يكن هو الذي اتصل به، وأخبره أنه علي علم بالنفوذ الذي يتمتع به في مصر ولكنه ليس - أي هيكل - الحكومة (أي المصرية) التي هو ممثل لديها كسفير لبلاده. ثانياً بالرغم أنه يكتب عموداً في الصحافة إلا إنه لن يقوم بالتعليق أو إبداء ملاحظات عما يكتبه ولكن المقالات التي كتبها عن الولاياتالمتحدة منذ وصوله كانت مريعة وسيئة جداً ولن يدخل في جدال معه بشأنها. قال السفير إنه بالطبع قلق لأنه في حالة قيامه بالتحدث عن مقال معين لهيكل يعترض عليه فإن هيكل سيفترض أنه موافق عليه، وفي رأيه فإن كل مقالات هيكل أثارته. القاعدة الأخيرة التي أبلغها باتل لهيكل أنه إذا خالف ثقته فإن ذلك سيكون نهاية الأمر بينهما، وفي حالة إذا أراد الإشارة إلي أي شيء يذكره السفير له فعليه أن يستأذنه أو لايمكنه - أي السفير - أن يقول نعم أم لا. يقول السفير باتل إن هيكل وافق علي كل الشروط وكان ذلك بداية لما سماه علاقات ودية جداً بينهما. في الحلقة القادمة يحدثنا السفير باتل عن علاقته مع الأستاذ حسنين هيكل وكيف دارت الأمور بينهما. أمين عام الجمعية الأفريقية