تقود أنت سيارتك بحرص.. وتحافظ علي أمنك وأمن من حولك قدر المستطاع.. وتتبع قواعد وقوانين المرور.. وتضع الحزام الذي يكتم علي أنفاسك حتي لو كان تكييف السيارة علي أعلي درجة.. وحتي لو كنت تسير علي الأول.. وإذا رن جرس هاتفك المحمول تهمله تماما بالرغم من أن تلك الرنة المزعجة هي المخصصة لرئيسك في العمل.. وسوف تلقي التقريع من أجل هذا الإهمال.. ولكن كله في سبيل القانون والأمن. وبعد كل هذا، يأتي (الميكروباص) بسرعة.. يقوده مراهق متهور.. كل ما يعرفه عن القيادة أنها سرعة جنونية تتخللها بعض (غرز) من أقصي اليسار إلي أقصي اليمين ثم إلي أقصي اليسار مرة ثانية.. وتبدأ المناورة وأنت تتحاشي التصادم وهو يسير كالمجنون ولا يأبه لشيء.. ثم تأتي اللحظة الحاسمة و(بووووم).. وفجأة، وبعد كل هذا الحرص، تجد نفسك في وسط الطريق وسيارتك قد صدمت فطار الفانوس، وكسر الرفرف، وانبعج الباب. ثم ينزل الأخ السائق من الميكروباص قائلا لك بكل وداعة: (معلش يا بيه).. وأنت في حالة الغليان تحاول التحكم في أعصابك وتصرخ في وجهه: (واللي حصل في العربية ده مين اللي هيتحمله)؟.. فماذا يحدث؟ تجد ما يزيد علي عشرة رجال قد ظهروا من تحت الأرض وتدخلوا في الأمر جميعهم وهم لا يفهمون شيئا ولا رأوا ما حدث ولكنهم - ولأنك أنت البيه - يقولون لك في صوت واحد: (هتقبل العوض يا بيه)؟ والمفروض أن تخجل أنت من نفسك بعد هذه العبارة وتنسحب في هدوء مع غيظك وسيارتك المصدومة ونفسيتك المجروحة..وتضيع مالك ووقتك.. وتترك أعمالك.. وتصلح سيارتك علي حسابك.. وتدفع ثمن غلطة الآخر لأنك (مش معقول أن تقبل العوض).. ويمضي الأخ السائق بالميكروباص الرهيب ويستمر في (الغرز) والسرعة الجنونية.. ويصدم آخرين ويحطم لهم سياراتهم لأنهم كلهم لا يمكن أن يقبلوا العوض. وبالرغم من أنني من المهتمين بالتقاليد المصرية وأصولها في تاريخنا القديم، وأؤمن بأننا لابد أن نحافظ علي تقاليدنا لأنها جزء من هويتنا.. لكنني لم أجد أبدا أي أصل أو معني لتلك العبارة الغريبة الخاصة بقبول العوض.. من هو عوض هذا؟.. وما معني أن يخطئ أحد ولا يدفع ثمن خطئه؟ وإذا لم يدفع ثمن خطئه، فكيف يتعلم ألا يخطئ ثانية؟.. وإذا كان القانون يعاقب القاتل حتي لو دفع دية لأهل القتيل، ولا ينتقص من العقوبة شيئا، فما هذه الفكرة العجيبة؟ قد يعتقد البعض أن قبول العوض يعني أنهم ليسوا قادرين علي تعويض الخسائر.. ولكن هذا اعتقاد خاطئ تماما.. فمهما كنت تستطيع أن تصلح سيارتك لابد أن يدفع المخطئ ثمن خطئه.. وقد يعتقد آخرون أن من يقبل العوض في خسارة مادية، قد يفقد عزيزا عليه - ولا أدري أيضا من أين جاءت هذه الفكرة العجيبة.. وهي خاطئة بالطبع فلا توجد أي علاقة بين قبول ثمن خطأ الآخرين من ناحية، وأي خسارة لاحقة من أي نوع.. وإذا لم نجبر المخطئ علي دفع ثمن ما اقترفه من خطأ سوف يستمر في ارتكاب الخطأ ولن يردعه شيء.