«الاشتغالة» في مصطلحات الجيل الطالع هي الضحك علي الذقون والعقول في مصطلحات الجيل النازل وهي نفسها عملية «الاستكراد» في عُرف الأجيال البائدة، وفيلم «الثلاثة يشتغلونها» الذي كتبه «يوسف معاطي» وأخرجه «علي إدريس» مفاجأة حقيقية لأن «تريلر» الفيلم يوحي بعمل يحاول أن يشتغل الجمهور وأن يستهلك طاقة بطلة الفيلم «ياسمين عبدالعزيز» بأي حاجة وبأي طريقة، ولكن المفاجأة أننا أمام فيلم كوميدي يحاول أن يقول شيئا عن الجيل الطالع الذي يعاني من الحيرة والارتباك والذي تعلّم بأسلوب الحفظ فأصبح عاجزا عن العالم المحيط به، نجح «الثلاثة يشتغلونها» بدرجة مقبول جدا إذ لا يخلوا الأمر من المنغصات مثل مبالغات الأداء عند «ياسمين عبدالعزيز»، والنمطية في بناء شخصيات الشبان الثلاثة الذين يشتغلونها، ولكن النتيجة العامة معقولة بل جيدة إذا قارنت الفيلم بما يطلقون عليه عادة الأفلام الكوميدية زورا وبهتانا وتجنيا علي الحقيقة، أو حتي إذا قارنته ببعض أعمال مؤلف الفيلم «يوسف معاطي» الأخيرة، كما في حاجة اسمها «بوبوس» وحاجة اسمها «أمير البحار»! الفيلم الذي يقدم عناوين البداية بشكل كارتوني ظريف يذكرك بأفلام الستينيات الخفيفة، والعنوان نفسه مستلهم من فيلم أبيض وأسود غير كوميدي بالمرة هو «الثلاثة يشتغلونها»، ولكن نجاح يوسف معاطي الأهم في الطريقة التي رسم بها شخصية بطلته «نجيبة متولي الخولي» «ياسمين عبدالعزيز» التي تعيش في بين السرايات أمام جامعة القاهرة مع أبيها «صلاح عبدالله» وأمها «هالة فاخر» الكتاب الدراسي هو محور حياتها لدرجة أنها تحفظه من الغلاف للغلاف بما في ذلك بيانات الإيداع الأخيرة وتحشر في ذاكرتها أيضا التعليمات المكتوبة خلف الكراريس، كل موهبتها في الحفظ والاسترجاع علي ورقة الاجابة، وتكون مكافآتها ووفقا لاساليب التقييم المصرية - أن تصبح الأولي علي الثانوية العامة بمجموع 101%، ولكنها شخصية مغلقة لا علاقة لها بالعالم المحيط بها لدرجة أنها لا تعرف أن هناك برنامجا اسمه «صباح الخير يا مصر»، وكل ما تشاهده هو البرامج التعليمية، وحتي بعد النجاح يختار لها والدها دخول كلية الآثار، ويوصيها بمزيد من التفوق الدراسي حتي تصبح رئيسة للجامعة نفسها، في حين توصيها الأم بالبحث عن عريس من داخل الكلية، الحقيقة أن هذه التفصيلات جيدة وصادقة وساخرة أيضا في التعبير عن الطريقة التي تنظر بها الأسرة المصرية لدخول الفتاة إلي الجامعة، ويتلخص ذلك في كلمتين.. الشهادة والعريس، أحدهما أوكلاهما إن أمكن ذلك، وسمحت الظروف والإمكانيات! نجيبة التي تثير الرثاء والسخرية لن تصطدم بالعالم الخارجي في اتجاه واحد: دخول كلية الآثار، والاستعانة بها هي شخصيا كمدرسة بالقطعة لمساعدة والدها الذي فصل من المصنع الذي كان يعمل به، ويسير السيناريو المتماسك «علي غير عادة معاطي» في الاتجاهين معا وبشكل متداخل، كل علامات الحيرة والارتباك والفشل في فهم الواقع داخل الكلية ينعكس سلبيا علي علاقتها مع الأطفال الذين سيتم تلقينهم وفق الحالة التي تتغير عليها «نجيبة» هناك ثلاثة شباب سيحاولون أن يضحكوا عليها لأسباب مختلفة وفي اتجاهات متباينة إلي درجة التناقض. السيناريو الذكي يكاد يشير إلي أن الثلاثة أيضا ضحايا حالة من «اللخبطة» العامة إلي درجة أنك تستطيع أن تتصور أن ينقلب أي واحد منهم مكان زميله، ولكن ظلت المشكلة في مناطق كثيرة في علاقة نجيبة بهم إنهم شخصيات نمطية استهلكت في أعمال درامية سابقة بنفس الهيئة وطريقة الكلام بما فيها أعمال من تأليف يوسف معاطي نفسه، وإن كان يخفف من هذه النمطية أن معاطي تخلص من مشكلتين واضحتين في أفلام سابقة هما: الاستطراد في أحد الخطوط علي حساب الخطوط الباقية، والابتعاد عن الفكرة الأصلية في سبيل خدمة الموقف المنفصل، ولكن الفكرة لم تفلت هنا، وكان الانتقال بين الشخصيات الثلاثة سهلاً وسلساً، بل أنك يمكن أن تقسم السيناريو إلي ثلاثة أجزاء: الأولي (وهو قصير) ويقدم من خلاله ملامح شخصية «نجيبة»، والثاني (وهو الجسم الأساسي للفيلم) ويتناول صدمتها مع كل شاب من الشبان الثلاثة، والثالث (وهو قصير أيضاً) ويتناول بشكل تعليمي مباشر محاولة «نجيبة» تغيير كل ما تعلمته بالتلقين لتختار بشكل أكثر حرية وانفتاحاً. الشباب الثلاثة هم: ابن عز لا علاقة له بالتعليم اسمه «نبيل كابورلين» (أمير المصري).. مثل كل الأفلام التي قدمت هذه الشخصية ستجد له شلة وصديقة، وسيكون انتهازياً مع زميلته طالبة الآثار «نجيبة» إذ يستغلها في الحصول علي كراسة إجابتها أثناء الامتحان في مقابل وعد كاذب بالزواج منها، الشاب الثاني شيوعي مدع اسمه «خالد» (نضال الشافعي) تكتشف «نجيبة» بعد انخراطها في حفظ الكتب الاشتراكية إنه إنسان جبان ينكر أي صلة بها، والشخصية أيضاًَ قدمت من قبل في أفلام سابقة، بل لقد تخصص في تقديمها الممثل الذي لم يأخذ حظه «سناء شافع» كما في دوره في فوزية «البورجوازية»، أما الشاب الثالث فهو داعية شاب انتهازي اسمه «عامر حسان» (شادي حلف) يتبرأ أيضاً من علاقته ب«نجيبة» وستجد أصداء لهذه الشخصية في أعمال سابقة ربما أقربها من أعمال «يوسف معاطي» نفسه الدور الذي لعبه «أحمد صلاح السعدني» في «مرجان أحمد مرجان». نجيبة (الصمامة) تتحول أمامنا إلي فتاة مودرن ثم مناضلة اشتراكية ثم فتاة محجبة تعتبر دراسة الآثار كفراً وفي كل مرة تقوم بتلقين وتحفيظ الأطفال ما تم تلقينها أياه، وفي كل مرة تصبح نزيلة السجن ليجدها الضابط (محمد لطفي) أمامه، وفي الجزء الأخير تختار أن تنطلق، بالأطفال إلي الحياة نفسها تحقيقاً للنهاية السعيدة لمجرد أن الفيلم كوميدي، بل أن «معاطي» يجعلها تعود إلي الكلية وتفوز بالعريس هو الأستاذ الجديد الشاب الذي يلعب دوره في مشهد واحد نجم معروف، وهكذا يعود الفيلم إلي مداعبة حلم الأسرة المصرية: فتاة جامعية تحصل علي الشهادة والعريس معاً! لا بأس من كل ذلك، بل أن الفيلم شكل مفاجأة سارة بالنسبة لي، وقد كتبت أكثر من مرة أن علي ادريس يستطيع أن يتفوق في الكوميديا الرومانسية التي تحقق منها أعمالاً جيدة مع «زينب عزيز» وفي الثلاثة يشتغلونها، يقدم إدريس. إضافة جيدة بالنسبة له، المونتاج (ماجد مجدي) بالتحديد كان مميزاً رغم أن الكثير من أفلام «ادريس» تشكو من هذا الاضطراب الناتج عن القفزات المونتاجية، ربما كان الجزء الأخير هو الأكثر إثارة للتململ، ولكني اعتقد أن تضفير الحيكات والانتقالات بينها كان سلساً، من العناصر المميزة أيضاً ملابس «مروة عبد السميع»، التي وجدت مجالاً فسيحاً للتعبير عن تغير حال «نجيبة» في كل مرة، وقد لفتت «مروة الأنظار بشدة في ملابس فيلم «طير انت» التي كانت من أبطال الفيلم ومن عناصر الفيلم المميزة ديكور محمد أمين وموسيقي تامر كروان». توزيع للأدوار في الفيلم كان موفقاً الشباب (أمير المصري) في تجربته الثاني بعد (رمضان مبروك) وشادي خلف وهو ممثل جيد شاهدناه في أدوار متنوعة، والموهوب «نضال الشافعي»، وطبعاً «صلاح عبد الله» وهالة فاخر، ولكن ظلت المشكلة في ياسمين عبد العزيز لاشك أنها موهبة خطيرة، ولكنها طاقة زائدة تحتاج إلي السيطرة والتوجيه، في مشاهد ضحكت من الأعماق، وفي مشاهد أخري كدت أغادر الصالة لأن المبالغات التي تقوم بها لا يمكن أن تراها حتي علي خشبة المسرح المدرسي!