بداية نقول: إنه قد يكون من غير المقبول وطنيا وعربيا أن نكتب هذا المقال حول «الإذاعة المصرية»، وهناك عشرات الأحداث، بل والكوارث التي باتت تفرض نفسها الآن علي الساحتين المصرية والعربية، وفي القلب منها - وبالترتيب الزمني لحدوثها - قضية نهر النيل، والتهديد من قبل دول المنبع بالنيل من حصة مصر المائية، مما يضعنا أمام كارثة حقيقية تهدد الحرث والنسل. ولا يقل عن هذه القضية كارثية ما قام به برابرة العصر، حفدة تدمير الحجر، والشجر، وقتل البشر، حتي البقر، وهم وليس غيرهم بقايا حثالة البشر، والمنبوذون المطرودون من كل الدول، والمجتمعات، لفسادهم وإفسادهم، غدرهم وخياناتهم، إنهم وليس غيرهم الصهاينة الذين قاموا أخيرا - وليس آخرًا - بتلك المذبحة البربرية لقافلة إنسانية تحمل الغذاء والأدوية لإخوة لنا علي أرض فلسطين العربية، وهي المذبحة التي أدمت الضمير الإنساني، وفي كل بلدان العالم، وشكلت جرحًا عميقًا لن يندمل في الوجدان العربي. نقول: قد يكون من غير المقبول تجاهل هذه الأحداث والكوارث ونتناول الإذاعة المصرية، ولكن قد يكون لنا العذر في ذلك، وهي طبيعة المناسبة وزمنها، وفي الوقت نفسه أن الإذاعة المصرية كان لها دورها المهم عبر تاريخها في تعميق الوجدان بالبعد الثاني أو الدائرة الثانية من دوائر الانتماء المصري، علي أساس أن الدائرة الأولي هي الدائرة العربية، وثالثة الدوائر هي الدائرة الإسلامية. كما أنه كان للإذاعة المصرية دورها المهم في تعميق مفهوم العروبة، والكشف عن الوجه القبيح للكيان الصهيوني العنصري المدعوم من قبل دول الهيمنة والاستكبار، والتي تشكل القوي الاستعمارية. لهذا ولغيره يمكن التماس العذر للكتابة عن الإذاعة المصرية، وتوجيه التحية لها في عيدها السادس والسبعين، ومنذ إنشائها عام 1934، وعبر تطورها كان لها دورها الفعال في تشكيل الوجدان في كل المجالات: أدبيا وثقافيا، وسياسيا، والارتقاء بالذوق العام، بفضل روادها الأول، ومن سار علي دربهم، حيث كان لهم تأثيرهم الفكري والثقافي والفني، والارتقاء بمشاعر الوطنية من خلال رواد الفكر والاستنارة. بل والارتقاء باللغة العربية: أسلوبا، فصاحة وتعبيرا، فمن منا لا يتذكر رواد الإذاعة أمثال أحمد فتحي، وجلال معوض، ومن منا لا يتذكر رواد الفكر والثقافة من أمثال طه حسين وسلامة موسي، وعبدالعزيز البشري، وعبدالرحمن عزام، وفكري أباظة، وبديع خيري، وغيرهم من القمم السامقة الشامخة. أما الأصوات الملائكية من قراء القرآن الكريم فيتقدم الصفوف الشيخ محمد رفعت، وعلي محمود، ومحمد الصيفي، وعبدالفتاح الشعشاعي، وأبوالعينين شعيشع، وعبدالرحمن الدروي، والدمنهوري، وطه الفشني ومصطفي إسماعيل، وعبدالباسط عبدالصمد، وعن الطرب الأصيل حدث ولا حرج عن أم كلثوم، وعبدالوهاب، ومن بعد عبدالعزيز محمود، وكارم محمود، وعبدالغني السيد، وأحمد عبدالقادر، وأسمهان، وفريد الأطرش، وعبدالحليم حافظ، وغيرهم من عمالقة الطرب الأصيل. ونصل إلي البرامج والصور الإذاعية التي كنت تسمعها وكأنك تراها، منها - علي سبيل المثال لا الحصر - ألف ليلة وليلة، والحنطور، وعوف الأصيل، وعذراء الربيع، وصواريخ المأمون أبوشوشة، ومسحراتي سيد مكاوي، وجرب حظك مع طاهر أبوزيد، ومكتبة فلان ونادية صالح، وسامية صادق وأسرتها البيضاء، وفاروق شوشة ولغته الجميلة، وعمار الشريعي الغواص في بحر النغم. أما العظيمة والإعلامية اللامعة آمال فهمي - متعها الله بالصحة والعافية - وبرنامجها «علي الناصية» فيحتاج الأمر إلي حديث خاص، ويكفي أنه البرنامج الذي تنتظره الجماهير علي اختلاف الطبقات والخلفيات، والكل يعرف التوقيت الواحدة والنصف بعد ظهر الجمعة، والإعادة في العاشرة من صباح الأحد، باختصار كان هذا البرنامج - ولا يزال - صاحب الجماهيرية الواسعة صاحب الجملة التقليدية التي كانت توجهها هذه الإعلامية اللامعة في نهاية حديثها مع ضيوفها وهي جملة «تحب تسمع ايه» التي كانت تأتي وكأنها نسمة باردة في صيف قائظ. وفي كل الأحوال يعد هذا البرنامج من النوعيات الخاصة في تفاعله مع الأحداث الوطنية، ومشكلات الحياة اليومية، فكان وبحق رائد كل البرامج الإذاعية. ومن الجدير بالذكر أنه من الإذاعة المصرية الأم، ولدت - وبعد قيام ثورة يوليو - إذاعة صوت العرب، الذي كان ينطلق من القاهرة قلب العروبة النابض، ومن بعد إذاعة الشرق الأوسط، وغيرها. فتحية للإذاعة في عيدها السادس والسبعين، وعقبال مئات السنين.