يبدو أن هناك شيئًا إيجابيا يحدث في مسرح الثقافة الجماهيرية، ويبدو أيضًا أن هناك أفقا جديدًا ينفتح أمام هذا المسرح ليسترد روحه وهويته ومكانته المتميزة التي كان يحتلها - يومًا ما - في المشهد المسرحي المصري.. فالقاهرة شهدت خلال الأسبوع الماضي حدثين مهمين يخصان مسرح الثقافة الجماهيرية الأول: ملتقي الفرق المتميزة علي مستوي «الفرق القومية - قصور الثقافة - بيوت الثقافة» لثمانية عروض حصلت علي المركزين الأول والثاني في المهرجان الختامي، والثاني: عروض مراكز التدريب المتخصصة وتضم: «مركز بني مزار للظواهر الشعبية - مركز بورسعيد للدراما الحركية - مركز الفيوم لمسرح عرائس الكبار». وقد شرفت بعضوية لجنة اختيار العروض المشاركة في المهرجان القومي للمسرح الذي ستبدأ فعالياته في يوليو المقبل، من خلال الحدث الأول الخاص بالفرق المتميزة وأستطيع من خلال المتابعة لفعاليات ملتقي العروض المتميزة، أن أرصد تطورًا ملموسًا في عدة نواحٍ أهمها: تناول نصوص جديدة لم تقدمها فرق الثقافة الجماهيرية من قبل، حيث عاني هذا المسرح من تكرار تقديم نصوص بعينها لسنوات بعيدة وكأنها دائرة محكمة من النصوص لا فكاك منها ولا تجديد يطالها. الاهتمام بالصورة المسرحية والتشكيل في إطار سينوغرافي يحمل قدرًا من الجدة والحساسية الفنية. يقدم الملتقي عددًا من الممثلين والممثلات علي مستوي عادل ومتميز يثبت امتلاك فرق الأقاليم لطاقات فنية واعدة لا تقل في المستوي عن المحترفين وأصحاب الخبرات الكبيرة في هذا المجال. ولكن هذا لا ينفي وجود بعض المؤشرات السلبية في هذه العروض ومنها التدخل السافر في النص المسرحي بالكتابة والإعداد والحذف والاضافة وذلك دون اشارة لطبيعة هذه التدخلات واسم «الدراما تورج» أو المعد وهذه مشكلة كبيرة لأنه في النهاية قد يتبقي نص تم اعداده ومعالجته دون الاشارة إلي هذا! كما تلاحظ في بعض العروض المسرحية اقحام للتعبير الحركي عبر مفهوم غير ناضج للرقص المسرحي الحديث وذلك في محاكاة شكلية لبعض عروض المهرجان التجريبي ومهرجانات الرقص الحديث دون خلق علاقة عضوية بدراما العرض المسرحي! ولا شك أن رصد بعض الظواهر الايجابية والملامح السلبية يعني أن هناك حراكًا قد دب في أوصال مسرح الأقاليم بعد سنوات من تقديم نصوص مكررة وأشكال مسرحية مستهلكة واحتكار مخرجين محددين لمواقع بعينها بصورة أدت إلي تكلس هذه الفرق وعدم تقديمها أي جديد. أما الأمر الذي يستحق التحية فيتمثل في التجربة الجديدة المسماة بمراكز التدريب المتخصصة ففي تقرير متميز للإدارة العامة للمسرح في إطار حرصها لخلق مناخ ثقافي محترف تقنيا ومتسع الأفق فكريا يقبل الآخر، ويدعم التعددية الثقافية لاثراء الحركة الفنية والفكرية وبناء مناخ اجتماعي مستنير، استحدثت الإدارة مراكز التدريب المتخصصة وهذه المراكز هي إحدي نتائج محاولة تطوير مسرح الأقاليم: «فقد لاحظت الإدارة أن بعض العروض المسرحية أصبحت نمطية أو متكررة بشكل كبير كنتاج لتكرار نفس النصوص بلا محاولات جادة لتقديمها برؤية مختلفة ومتجددة كما أن البعض - وقلة - أصبح هدفهم هو لجنة التحكيم فقط وليس المتفرج، حتي وصلت المسألة إلي تقديم العرض أمام اللجنة لمدة يوم أو يومين ثم إغلاقه بعد ذلك، وبهذا أصبحت اللجنة أهم من المتفرج إلي جانب أن بعض المخرجين انغمسوا في مغامرات فنية لا تصلح لمسرح الأقاليم وبعيدة كل البعد عن اهتمامات رواده مبتعدين عن مشاكلة الواقع ومشاكسته هذا الرصد الواعي لحركة مسرح الأقاليم دفع القائمين عليه لاستحداث مراكز التدريب المتخصصة حيث جاءت البداية بثلاثة مراكز هي: مركز بني مزار للظواهر الشعبية المسرحية ومركز بورسعيد للدراما الحركية ثم مركز الفيوم لعرائس الكبار.. وتقوم هذه المراكز علي جمع وحفظ وتدوين وتسجيل الإرث الثقافي المحلي بجمع الأغاني الفولكلورية والحواديت الشعبية والمواويل والإنشاد الديني المسيحي والإسلامي مع محاولة توظيف المادة التي تم تجميعها في تشكيل عروض مسرحية شعبية.. ولست أبالغ لو قلت إن نجاح هذا المشروع يمكن أن يشكل انقلابًا وتحولاً هائلاً لا في مسيرة مسرح الأقاليم فحسب ولكن في مسيرة المسرح المصري بإجماله. ذلك أن أقاليم مصر المختلفة تمتلك ذخيرة تراثية هائلة متنوعة ومتعددة ولم يتم الالتفات لها بعد وخاصة أطراف مصر في أقصي الجنوب حيث العمق الذي ينفتح علي الثقافة الأفريقية، وفي أقصي الغرب والشرق حيث ثقافة الصحراء بكل ما تحتويه من عراقة وأصالة بالاضافة إلي قلب الوادي وجنوبه وشماله ومدن القناة والسواحل.. إن هذا البحث من شأنه أن يلتقط صيغًا مسرحية مصرية تتصل بالواقع وتنبع من التراث.. وكل ما أتمناه أن تزداد هذه التجارب وتتسع هذه المراكز وأن تتوافر لها من الإمكانات ما يضمن استمرارها لأن النتائج الحقيقية لن تظهر بين ليلة وضحاها، ولكنه مشوار طويل يحتاج لمزيد من الوقت والجهد والدعم وبوجود المخرج عصام السيد علي رأس هذه الإدارة والدكتور أحمد مجاهد علي رأس الهيئة العامة لقصور الثقافة نستطيع أن نتفاءل بهذه التجربة المهمة وأن ننتظر المزيد.