أسبوع كامل لم أشاهد أي برنامج تليفزيوني ولم تطالع عيني صحيفة. تجربة أردت أن أثبت لنفسي فيها أن الحياة تكون أفضل، أحياناً وليس دائماً، إذا ما غيرت عاداتك أو تحديت رغباتك أو تجاهلت ما يدور حولك. بحكم العمل لا يمكن بالنسبة لي إغلاق عقلي أو "سد" أذني وإغلاق عيوني، وبحكم طباعي لست الشخص الذي يعيش اللحظة ولا دونها ولا يتفاعل إلا مع مجتمعه الصغير الضيق، وبحكم مبادئي لا أضع رأسي في الرمال لأهرب من مصيري، أو أفر من ظروفي أو أريح "دماغي" وأغيب نفسي عن واقعي وأفرح لأني لا أعلم الحقائق حولي. كانت مجرد تجربة عشتها ورصدت بعدها نتائجها وأهمها أننا نعيش قدراً كبيراً من الكآبة سواء باختيارنا أو دون إرادتنا، ليس فقط لأن وسائل الإعلام تبحث عما هو كئيب وتبرز السيئ من الأحداث ولكن أيضاً لأن الأحداث نفسها، دون الدخول في التفاصيل، كئيبة وموجعة ومحزنة. خففت أيضاً، ولو بقدر بسيط، من تعاملي مع جهاز الكمبيوتر وشبكة الإنترنت، وحرصت علي أن يكون تعاملي في اتجاه لا يحرك لدي أي مشاعر للغضب أو الحزن أو الكآبة، وفي الوقت نفسه تفاديت بالطبع الاقتراب من عالم افتراضي فرضه بعض مدمني الإنترنت علي أنفسهم. اكتشفت أنه حين تترك لعقلك الحرية فترة ليفكر بعيداً عن مؤثرات خارجية تتحكم فيه أو تؤثر عليه أو توجهه في مسارات خاطئة فيصل بك إلي نتائج أنت تريدها أصلاً، فإنك تتصرف بحرية أفضل وتصل إلي الحقيقة دون تزييف. مثلاً ستجد أن الحزن علي رحيل شخص أو أكثر نوع من "الهبل" طالما أن هؤلاء الأشخاص أو هذا الشخص رحل برغبته حتي لو كانت "نداهة" الجهل جذبته. وأيقنت أن مشاعر الكراهية أثقل مما كنت أتصور وأن ليس علي أن أحمّل نفسي بها، وأن مشاعر الصداقة الأكثر صدقاً حتي من مشاعر الحب، فالصداقة تصنع الابتسامة غالباً حين يترك الحب الدموع. أدركت أن من لا يرضي بي كحل لعينيه يجب ألا أرضي به في ذاكرتي، فقيمته كانت دائماً كبيرة معي، فأهدر مكانته وصار لا يستحق حتي أن تتذكره، فالقاعدة تقول إن عليك ألا تفرط في من يشتريك أبداً ولا تشتري من باعك أبداً وبالتأكيد لا تحزن عليه. لا أدعي أن البعد عن تلك المؤثرات الخارجية منحني الحكمة ولكنها محصلة التفكير في هدوء وراحة والاستفادة من الخبرات المخزونة. عدت بالطبع أمس إلي حياتي العادية ولكن وجدت نفسي أفضل وقلبي أكثر رقة وعقلي أفضل اتزاناً وروحي أكثر تسامحاً، وحتي بعض النظريات التي كنت أتبعها اكتشفت أن الوقت حان لتغييرها، فإذا خانك أحدهم مثلاً وتيقنت من خيانته فلا تضيع وقتك في تساؤلات واستفسارات غبية، ولا تبحث عن إجابة لتساؤلاتك عن سلوكه، ففعل الخيانة نفسه هو الإجابة. ولا تتخلي عن الرغبة في الحرية والانطلاق والتخلص من القيود، فأكثر شعور يقربك من الموت هو الذي يتولد جراء العيش مع شخص لا تحبه أو عمل لا تتقنه أو أن تتنفس هواء مصدره فاسد، وقتها تختنق المشاعر وتضيق الشرايين ويكاد العقل يتوقف عن التفكير والقلب عن النبض. أفرزت التجربة أيضا يقيناً بأن حياتك يجب ألا تتركها ليرسمها غيرك فقد لا يحمل سوي ريشة ليست فيها إلا اللون الأسود، وأن الصمت لا يعني دائما الجهل أو التخلف ولكن قد يكون موقفاً معتبراً لأن ما يدور حولك لا يستحق حتي الكلام، فالأرض تبقي كتلة صامتة ولكن من جوفها تنطلق البراكين، وأن من الأفضل حين تتأكد أنك تتكلم إلي من لا يفهم أن تصمت، ليس عليك إذاً أن ترسم أحلاماً لشخص أعمي لن يراها، ولا تصف مشاعرك لشخص أصم لن يسمعها ولا تكتب رسائل لشخص أمي لا يفهم، ولا تذكر من غدر بك حتي مع نفسك لأنه لا يستحق الذكر وانزعه من صفحة حياتك إذ يفترض أنه قتل نفسه داخلك قبل أن يقتلك، ومن الغباء الشديد أن تسعي إلي زرع الحب في قلب لا يحب إلا نفسه، ولا تجعل نفسك أبداً دودة في الأرض وإلا فلتقبل بأن يدوسك غيرك، ولا تأسف علي ما ضاع منك "فعسي أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم"، ومن طلب بعدك زيده بعداً ولا تذهب إليه أبداً. أنها مجرد أفكار أتت حين تحررت وما أجمل الحرية.