أيها القارئ هل عرفت أحدث تعريف للإنسان؟! لقد قيل مرة: إنه حيوان ناطق ثم تبين أن الببغاء تنطق! وقيل: إنه حيوان ضاحك ثم تبين أن القرود تضحك! وقيل إنه حيوان عاقل، ثم تبين أن كل الحيوانات تعقل وإن كان العقل درجات! وحار العلماء طويلا: فالإنسان كائن حي: يأكل ويشرب وينام ويعقل كغيره من الحيوانات ولكن المؤكد أن هناك شيئا ما يميزه عن الحيوان!! شيئا ارتقي به حتي أصبح هذا السيد الذي يحكم الحيوان والجماد ويقهر الطبيعة. وأخيرا اهتدي العلماء إلي التعريف الدقيق: الإنسان حيوان ذو تاريخ!! ما معني ذلك؟! معناه أن الميزة الأولي التي تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات هي أن كل جيل من البشر يعرف تجارب الجيل الذي سبقه ويستفيد منها، وأنه بهذه الميزة - وحدها - يتطور وعلي العكس من ذلك الحيوان، فالأسد أو القط أو الكلب الذي كان يعيش في الأرض منذ ألف سنة لا يمكن أن يختلف عن سلالته التي نراها اليوم.. في الصفات والطباع ونوع الحياة! أنت تستطيع اليوم أن تصطاد الفأر الذي تجده في بيتك بنفس الطريقة التي كان يتم اصطياده بها منذ زمن قديم، مصيدة وقطعة جبن!! ولو كان في بيتك عشرة فيران لاستطعت أن تصيدها واحدا بعد الآخر، يوما بعد يوم، بنفس المصيدة وقطعة الجبن، ذلك أن الفيران ليس لها تاريخ ولا تستفيد من تجربة!! هي لا تعرف أن في اليوم السابق دخل الفأر ليأكل الجبن فأغلقت عليه المصيدة، وهي قد تعرف ولكنها لا تدرك المغزي، فلا تتحاشي أبدا قطعة الجبن. وعلي العكس من ذلك الإنسان.. إنه يعرف ما أصاب أسلافه بالأمس ومنذ مائة سنة ومنذ الآف السنين، فهو قادر علي أن يتجنب زلاتهم ويستفيد من تجاربهم، ويضيف إلي اكتشافاتهم.. وكل جيل لا يبدأ من جديد ولكن يضيف إلي ما سبق، وهذا هو التقدم!! علي أن الإنسان لا يولد وعبرة التاريخ في جوفه.. ولكنه يتعلم فهو لا يستطيع أن يعرف التاريخ إلا إذا قرأ، وإن كان رجل كيمياء تعلم ما وصل إليه المكتشفون السابقون.. ومن حيث انتهوا يستطيع أن يبدأ وإن كان مواطنا فإنه يتعلم تاريخ وطنه كله، ويدرك مغزاه، وسر تطوره واتجاه خطواته. وليس يكفي أن تعرف حوادث التاريخ لكي تحسب أنك قد تعلمت التاريخ، فالأهم أن تستخلص من هذه الحوادث عبرتها!! علي أي شيء تدل؟ وفي أي طريق يمضي التاريخ؟! فإن ذلك يجعلك تعلم ما سوف يحدث وما لا يمكن أن يعود.. فيجنبك أن تكون رجعيا ويحميك من السير وراء دعوات براقة فات وقتها!! والتاريخ هو الفرق بين الإنسان الواعي، وغير الواعي «الإنسان غير الواعي لا يري إلا قطعة الجبن، ولكن الإنسان الواعي يري قطعة الجبن ويري المصيدة». وبس خلاص!! أقول بس خلاص لأن المقال البديع انتهي، والمقال ليس مقالي، فلا أنا ولا غيري يستطيع أن يكتب بمثل هذه البساطة والسلاسة والصدق والعمق إلا عمنا وأستاذنا في الكتابة الأستاذ «أحمد بهاء الدين». هذا المقال الذي أتمني أن أصل في كتاباتي إلي عمقه وصدقه وبساطته، عمره أكثر من خمسة وخمسين سنة، وكان مقدمة واحد من أروع وأجمل كتب الأستاذ «بهاء» وهو «أيام لها تاريخ» الذي نشره علي صفحات «روزاليوسف» ثم أصدرته السيدة العظيمة «روزاليوسف» في سلسلة الكتاب الذهبي. صحيح أن مقال الأستاذ «بهاء» درس في الكتابة الرائعة والرائقة، بساطة الأسلوب.. فلا فذلكة ولا حنجلة ولا غموض مفتعل، لكنه أيضا رؤية مبصرة في رؤية هموم ومشاكل الوطن وناسه أمس واليوم وغدا. كل مشاكل وهموم الوطن والناس سواء كانت عويصة أو عبيطة لها حل، من زحام المرور وارتفاع الأسعار وتدهور التعليم والصحة والأخلاق إلي الخصخصة وأخطاء حكام كرة القدم، وأزمة ألف ليلة وليلة، وكما لا يوجد فأر ذكي وفأر غبي بل هناك فأر فقط لم يتعلم من تجارب أجداده وأسلافه التي اصطادها الإنسان بمصيدة وقطعة جبن، لكن الإنسان - سيادتك وسيادته وسيادتي - حاجة تانية، فالمفروض كما كتب عمي وعمك «بهاء» أن الإنسان يعرف ما أصاب أسلافه بالأمس ومنذ مائة سنة ومنذ آلاف السنين فهو قادر علي أن يتجنب زلاتهم ويستفيد من تجاربهم ويضيف إلي اكتشافاتهم وكل جيل لا يبدأ من جديد ولكن يضيف إلي ما سبق، وهذا هو التقدم! إن كل ما نعاني منه من مشاكل وهموم في جميع مناحي الحياة، سبق دراستها وتحليلها وتشخيصها علي يد خيرة أبناء مصر في جميع تخصصاتهم، لكن هذه الاجتهادات كلها وجدت طريقها إلي المخازن والدواليب وأدراج النسيان، ثم نبدأ من أول وجديد في لت وعجن نفس المشاكل لتصدر تصورات لحلول جديدة سرعان ما تذهب إلي نفس الأدراج والدواليب ليأتي من بعدنا الأولاد والأحفاد ويبدأون في اللت والعجن من جديد! إن وفصل مشاكلنا وبلاوينا هي في حكاية الفأر والجبنة والمصيدة «الفأر» وليس الفقر أيها السادة.