قال الولد إياه: سيداتي آنساتي سادتي: ثم خبط بقلمه عمود الميكروفون ليتأكد من سيطرة صوته علي القاعة، ثم سعل سعلة مدوية وخشنة وقال: سيداتي آنساتي سادتي ضيف الليلة هو أعظم وأجدع وأشجع وألمع رجال حقل الإبداع إنه محراث الابتداع إنه ثور الجر لكل الحركة ولولا صموده وجهاده، لماتت الحركة وضاعت المجهودات الشديدات، إنه من بقي من زمن العظمة والكبرياء، إنه آخر الرجال العظماء، إنه الوحيد الفريد العميد السعيد جدًا الذي لم يعد له ثان فلان ابن علان القيدواني طويل القامة لامع الشامة مخطط البيجامة، يا سلام وبدأ يدمع، بل انخرس صوته وبكي تأثرًا، ونهنهت المذيعة وانكفأ الضيف علي المائدة، وارتجعت القاعة بالتصفيق الشديد. وصرخت المذيعة بصوت أقرب لصوت «عنزة». وقالت صارخة في مأمأة متفردة سيداتي وسادتي السكوت، لقد آن أوان أن ينشق الجبل ها هو الأستاذ سوف يتكلم ويحكي عن رحلة ماضيه وأيامه ومراميه، افتحوا الآذان وتأملوا كلام الأستاذ، إنه فذ من الأفذاذ ألمع من لوح «القزاز»، ها هو سوف يلقي علينا بالدرر، ومن شاء أن يلحق بالكنوز فليفتح الكاسيت ويدير التسجيل إن التاريخ جالس الآن معنا يسجل كلمات الأستاذ، وهو شجرة البلوط عمود الخيمة فارس البدنجان شارب الدخان طويل اللسان ألمعي العقل والجنان ها هو الأستاذ. ولمعت صلعة الأستاذ بتأثير الفلاشات، وتحركت كفه تلوح في حياء وكبرياء وأخرجت يده الأخري منديلاً ليمسح حبات الدموع والعرق والخجل والمعاناة وشقاء الأيام ثم سعل سعلتين ومخط بعدها مخطتين ثم وقف وانحني فانهالت الأكف تصفيقًا وصفيرًا وزعيقًا، إنه وهو الأشم الوحيد ينحني تواضعًا للأجيال التي حضرت حفل الاستقبال، وبدأ الحفل بالجواب والسؤال. سؤال من شقراء حمقاء «يا أستاذ ما رأيك في الجيل الحالي الذي أضاع الفن والفنون؟». سعل الأستاذ وتسارعت الأيادي بأكواب الماء، حتي يسلك لنا ماسورة الهواء المدفوسة في جوفه وقال: أيتها الآنسة العزيزة جيل حالي إيه إنه جيل ضايع مايع بايع كل القضايا ليس له انتماء، وليس له ثقافة ولا قدام ولا وراء إنه جيل منحوس مكبوس مهووس يجري وراء الفلوس، وفيه العبر ويستحق الضرب بالإبر وتصاعدت من آخر القاعة اعتراضات وهمهمات مكتومات وطرق الشاب مدير الندوة قلمه في حامل الميكروفون طالبًا الاستماع والسكون. وصرح الأستاذ في بلطجة نعم إنه جيل بلا آباء، جيل لم يتعلم الانحناء كما قال الشاعر: قم للمعلم وفه التبجيلا. إنه جيل لا يحترم القديم السليم، ويجري وراء الموضة، وهنا وقف شاب وسأل ما العمل.. ماذا نصنع يا أستاذ وقد غاب الآباء المعلمون وذابوا مثل السكر والليمون؟ صاح الأستاذ لم يغب كل الأساتذة أنا مثلاً موجود أشع عليكم أنوار العلم والمعرفة أنا أتكلم إذن أنا موجود لم يعرف الأستاذ أن وجوده مثل عدمه فقد انتهي منذ زمن سحيق زمنه وأنه أصبح صورة قديمة لا تصلح لأن يتمثلها الأبناء لقد سار في كل المواكب وركب كل المراكب، عاش عصوراً ثورية وأخري رجعية، وثالثة «ثور مهلبية» وغني لكل الزعامات من عاش ومن مات، وفقد أهم شيء وأهم علامة فقد «مصداقيته» فهو كاذب كذاب طرق كل باب وبات علي الأعتاب وقبض من كل الأحزاب، فكيف بالله تتمثله الأجيال وكيف يعدونه «الأستاذ» بالفعل وهو ليس أكثر من بوق مزقوق ليقول كلامًا أهبل مزيفًا ركيكًا مهوشًا وصاح الأستاذ نحن الجيل الأعظم الأتخن الأسمن الأجدع الأشجع لكن جيلكم لا يريدنا نحن الأفيال وأنتم مجرد أرانب، جيلكم يرفضنا ويفرض علي الساحة التفاهة، ولهذا نحن منسحبون أنتم جيل ليس له في الطيب نصيب أنتم حرمتم أنفسكم من حلاوتنا الزايدة قوي لقد نسيتم كيف كنا نقف في الساحة نملأ كل المساحة. وسكت وطال الصمت