كانت ليلة النصف من أكتوبر، وكنت مضطراً إلي الهرب من النوم الذي قد يغلبني، إذْ كان علي أن أعطي دروساً للصبية في كيفية قراءة فقرة من كتاب، كنا قد قرأناها أمس، ولم نقتنع أننا أتقناها، كنت أحاول أن أعلم الصبية كيف يسحبون ماء أي نص ليسقوا أرواحهم وحناجرهم، لذا فإننا عندما توقفنا أمام تلك الفقرة التي شرحتها لهم بلذة المضطجع في سريره، أحسست أنني لا بد أن أقرأها ثانية بلذة حمّال في محطة قطار، وانشرح صدري، فقرأتها هكذا:" كنت أصغر في العمر خمسة عشر عاماً، وأقصر في الطول نصف متر، وكان قلبي أخضر لم يزل، أما ملامحي فكانت أقل جهامة، أيامها كنت أكره ترومان وتشرشل، وأحتقر مدرس الجغرافيا، وأقرأ أرسين لوبين وطه حسين والمنفلوطي، وأحب أمي وحصص الإنشاء وبنت الجيران".بعد أن انتهيت، نظرت إلي عيون الصبية، وكانت جاحظة من شدة الفضول، كأنهم فئران ترغب في التهام وجباتها من تلك الأوراق المكتوبة، قلت لهم: طبعاً لن ترفعوا أصواتكم، فارتفاع الصوت فضيحة لا تليق، أيضاً لن تخفضوها لأن الخجل فضيحة لا تليق، اقرأوها كأنكم تفكرون فيما تخفيه البنات تحت فساتينهن، لا تتثاءبوا وتواضعوا أما مكتبكم، لأن عمر الكتاب أطول من عمر الإنسان، أنت أيها الطويل ستأخذ البرنسيسة والأفندي، وأنت الثورة العرابية، وأنت حكايات من مصر، وأنت أي رجال، رجال مرج دابق، أو رجال ريا وسكينة، الباقون يختارون كتبهم بأنفسهم، لا تنسوا أننا نحتفل بزاهد، لا يبيع كلمته مقابل كنوز الدنيا، ولا يسمح لأحد أن يشتريها منه، ومثل الأنبياء يقبل الهدايا ويرفض الصدقة، ينظّف قلمه في اليوم الواحد خمس مرات كأنه يتوضأ، وينظف لسانه ويحرسه مخافة أن يسرقه السلطان والوزير والخفير ورئيس الحزب، يغير حذاءه دائما لأن الأحذية أول من يخون، ولا يخلع سلسلة ظهره فهي مثل قلبه وفية له، في الأسواق يختار فقط فانلته وهم يختارون الباقي، إذا عجزت شفاهكم عن ترتيل كلامه، تذكروا أنه المثل الأعلي، أنه الموديل والباترون، أنه علي الزيبق وروكامبو وجاليفر والمقريزي، هيا اذهبوا، كانت زوجتي تراقبنا، ولما رأت الصبية ينصرفون، اقتربت مني وسألتني: ماذا تفعل؟ قلت: أحتفل بصلاح، قالت: صلاح عبد الصبور أم صلاح جاهين أم صلاح ابن أم محمد البوابة، قلت: لا لا لا، صلاح عيسي، أنت تعرفين أنه صاحب أكبر أوتيل في قلبي، وأنه حارس الأوتيل أيضا، قالت: وما المناسبة قلت: عيد ميلاده، سألت: أي يوم، قلت: الأيام كلها تناسبه، فهو مثل الشمس يومي وضروري، ومثل القمر شهري وضروري، ومثل الربيع فصلي وضروري، قالت بضجر: أي يوم؟، قلت صلاح من فصيلة نادرة، فصيلة العظماء، يولد كل يوم، كأنه الفينيق، قالت: نعم؟، قلت: الفينيق يعني العنقاء، منذ أول حرف قرأه صلاح تعلّم تقاليد سلالته، أن يتجدد مثل ثمار البطيخ والكمثري، وأن يصر علي كراهية الثبات، لأن الثبات موت، أما الحركة فلا يهم إذا تحرك كأصل أو كظل، كالسيدة صاحبة المظلة أو كالمظلة، المهم أن يتحرك، قالت زوجتي: وأين ستحتفل به؟ قلت: في الوسعاية أمام بيتنا القديم، هناك خالطته وخالطني، لم أفارقه مرة إلا واشتقت إليه، أعرف مواقع خطواته وأميزها حتي لا أدوس ما يدوسه، إذا سعل سددت أذني، كي لا أحسبه مريضاً، وإذا نظر أشحت بوجهي كي لا أري ما يحملق فيه، سألتني زوجتي: وإذا استيقظ، قلت: أنام، صمتت زوجتي طويلا، ثم قالت: سأقيم عند أمي حتي نهاية الحفل، لم أعرف لماذا غضبت، أحسست بثقل العبء الذي ساأحمله وحدي، وتخليت عن الوسعاية، ساأنظف البيت، ساأخليه من الأثاث، فيما عدا المرايا وعلب البهارات، لأنه يحبها، هكذا فكرت، وسوف أكتفي بمائدة بيضاوية كبيرة تتسع لتورتة بحجم المائدة، تورتة عالية، قد أسميها تورتة ناطحات السحاب، أو تورتة البرج، فصلاح ناطحة أو برج، وسوف أغرس فيها شموعاً بلا عدد، وبكل الألوان، سوف أعود إسماعيل باشا صدقي، وفرج الله الحلو، وعرابي باشا وشكري مصطفي، وحسن البنا، وسيد قطب، وعبد الله أفندي بالمر، ولينين، وستالين، وبيريا، وراسبوتين، وجدانوف، والهلباوي، ونور الدين المشالي وحبيبته فاطمة وسليمان الحلبي وقانصوه الغوري، وفكرت أن أدعو محمد سيد أحمد ولطفي الخولي وفؤاد مرسي وإسماعيل صبري عبد الله وهنري كورييل ومحمود العالم وصنع الله إبراهيم والأبنودي ونجم وعبد العظيم أنيس، ومني وسعد زهران وفريد، وكنت من قبل قد دعوت فعلا فؤاد باشا سراج الدين ومحمد حسنين هيكل وسمية الخشاب وعبلة وكامل وأم المصريين والسيدة عائشة وزينهم، يوم الحفل فوجئت بأن ارتفاع التورتة سيحجب الواقفين خلفها، فاستغنيت عن المائدة، وضعنا التورتة علي الأرض، الصبية توزعوا في أركان الشقة، لا أعرف لماذا جلسوا مثل المجاورين وشرعوا يتمايلون يمنة ويسري ويقرأون، كل واحد في كتابه، استغربت، لم أعلمهم هذه الطريقة، صوت الصبي الذي يقرأ البرنسيسة والأفندي يتهدج من فرط النشوة والشهوة أكثر من اللازم، نهرته، صوت الصبي الذي يقرأ رجال ريا وسكينة يكركر مثل خرير الماء، حضر المدعوون جميعا، فرحت بسمية الخشاب، وقلت في نفسي: هذه إحدي كراماته، لما قدم فؤاد باشا سراج الدين ومحمد حسنين هيكل، فوجئنا بهما أطول من تمثال صلاح المعروض في متحف الشمع، خلف فؤاد باشا فتاة بيضاء تميل إلي البدانة تحمل علبا عاجية مغلقة وبعدد الحاضرين، في كل علبة صورة ما، لشخص أو لحيوان أو لنبات أو لجماد، والمحظوظ من كانت الصورة في علبته لصلاح عيسي، سوف ينال هذا الشخص امتياز أن يقبّل يد صلاح أربع قبلات أمامنا جميعاً، ثم ينحني ويقول له: أمرك يا مولاي، فيباركه صلاح، ويدهن شعره بزيت السفرجل، وهذا هو حُقَّ السفرجل، أخرج الباشا من أحد جيوب بدلته، حُقّاً صغيرا كأنه لسان عصفور، وخلف محمد حسنين هيكل فتاة خلاسية صلعاء وفاتنة، تحمل رزمة ورق أبيض بعدد الحاضرين أيضاً، وزعته علي الضيوف واستبقت ورقة لصلاح، في آخر الليل سوف يكتب صلاح في ورقته كلمة أو جملة أو عدة جمل، ثم يكتب الآخرون، ومن تطابق ورقته ورقة صلاح، يحظي طوال اليوم التالي بملازمة صلاح، والجلوس علي يمينه كلما جلس، وله الحق في أن يقلده، كان الحوار بين فؤاد باشا وهيكل ممتعا، إنهما يتذكران سجنهما معاً آخر أيام السادات، ومعهما في الزنزانة الولد صلاح يا جميل، هكذا يقولان، كان لطيفا ينفذ كل ما نطلبه منه، قال فؤاد باشا: لما رأيته يتطلع إلينا في فضول، عرفت أنه سيغير ملابسه ونظاراته كثيرا، وسوف يشبهنا، فيما عدا صوته الذي سيفضحه، بعدهما أتي السادات ومعه الجميلة جيهان، كان أنيقا كعادته، البايب في يده معقوف كأنه أنف صلاح، صحح لنا السادات: هذا أنف قمبيز، السادات لم يكن مدعوّاً، قال جئت لأن هذا الولد لا يكف عن زيارتي في قبري، ويعترف بفضلي، فلولا معارضته لي، واعتقاله في سجوني، لظل مثل نخلة بلا بلح، إنه موهوب، في آخر زيارة، وقف أمام قبري وبكي وناداني: يا أبي، مسحت له دموعه ولم أمسح أنفه، فجأة التفت السادات وسأل: أين همت مصطفي؟ في الثامنة تماما حضر صلاح تتأبط ذراعه أمينة النقاش، وحسين عبد الرازق دون أن تتأبطه فريدة النقاش، كانت تتقدمه، عندما رآهم السادات هتف بسرور وصفاء: عصابة الأربعة، الغريب أن صلاح رأي السادات فبكي وسال أنفه، بعدها فك زراعه من يد أمينة وخرج بمفرده، ثم عاد ثانية كان ينحني وبصوت مخنوق يقول: تفضلوا يا سادتي، رأينا القادمين، لم نعرفهم، إنهم يشبهون رسوما كاريكاتيرية لفاروق حسني وزاهي حواس وجابر عصفور وفاروق عبد السلام، وجم المدعوون وجمدوا في أماكنهم، الصبية ألقوا الكتب علي الأرض وداسوها ساعة فرارهم، الشموع المضاءة انطفأت من تلقاء نفسها، التورتة الموضوعة علي الأرض كانت ترتعش وتبكي، المدعوون جميعا خرجوا هرولة، كاد السادات ينكفئ علي وجهه، لولا أن جيهان أمسكت ذراعه وصاحت: حاسب يا أنور فؤاد باشا يعاتب هيكل: لم نتفق علي ذلك، طموحات الولد فاقت طاقتنا، هيكل يهز رأسه: فعلا يا باشا، سمية الخشاب مذهولة، وضعت يدي علي ظهرها ودفعتها أمامي برفق، وخرجنا، ولما أغلقت الباب خلفي، كان صلاح والكاريكاتورات والتورتة في الداخل، علي الباب فاجأتني زوجتي عائدة من بيت أمها، لكزتني وقالت: ألم أقل لك، نظرت سمية الخشاب إلي وجهي، وسألتني: من أنت، أنا لا أعرفك، أين عبلة، يا عبلة، يا عبلة، الحقيني يا عبلة، الحقيني يا ريا، الحقني يا صلاح، يا خرابي، لا أعرف حتي الآن لماذا ضحكت زوجتي.