حينما يصادف أحد القراء كتاب الروائي مكاوي سعيد الجديد "مقتنيات وسط البلد"، ويجول بين شخصياته وأماكنه، سيعرف علي أي حال كانت منطقة وسط البلد خلال السبعينيات والثمانينيات وحتي بداية الألفية الثالثة، سيعرف كيف كانت تلك المنطقة تعلي من قدر البعض وتحط من قدر البعض الآخر، سيعرف كيف كانت أماكنها وكيف تغيرت، وهو ما يقصده مكاوي سعيد بالضبط، التأريخ لمكان أثير يعمل بنفس صفات القدور وهي تغلي، هنا يتحدث صاحب "تغريدة البجعة" عن كتاب يتعاطف فيه مع المكان ومع البشر. في البداية سألته عما يقصده بكلمة مقتنيات؟ - مقتنيات، كلمة خاصة بالفن التشكيلي، كأن تقتني لوحة تعتز بها طول العمر وتورّثها للأجيال، وقد قصدت بها القول بأن تلك الشخصيات التي كتبت عنها هي شخصيات أضاءت منطقة وسط البلد حتي احترقت، ولم يتبق منها أثر سواء في الكتابات أو الصور أو الموسيقي أو السينما، وفي الكتاب أحاول أن اكتب عنهم من واقع حبي لهم لأنهم في فترة من الفترات كانوا يمثلون شخصيات مبهرة كنت علي يقين من أنها ستنجح يوما ما، لكنهم للأسف في صراعهم مع الحياة لم ينجحوا، فحاولت أن أضئ حياتهم وقصصهم للأجيال الجديدة حتي يتقون مصائرهم، ولتحدد هذه الأجيال ما تريده بالضبط. ما الفرق بين هذه البورتريهات وبين القصص القصيرة؟ - أولا أحب أن أوضح أن هذه ليست بورتريهات، لأن البورتريهات نوع من الكتابة الصحفية أراها تكتب بلغة سطحية، وهو أمر أرفضه، فأنا لا أحب الكتابة تحت أي تصنيفات، هناك ناس رأتها حكايات أدبية، وناس رأيتها قصص قصيرة وناس رأتها رواية يربطها وحدة الموضوع والمكان، والجانب التاريخي في الكتاب قد يمنحه الطابع التوثيقي، وهذه الاختلافات بالضبط هي التي منعتني من وضع تصنيف معين لها، وهو نفس الموقف الذي اتخذه مع كتاب خالد الخميسي "تاكسي" فهو كتاب جميل من وجهة نظري، لكني ضد أن يكتب عليه كلمة رواية، لأنه ليس رواية بالفعل. كيف حافظت علي الخط الفاصل ما بين فضح هذه الشخصيات والتأريخ لها؟ -هو ليس فضحا، بل إنني أعرض تأثير المتحققين علي غير المتحققين الذين بدأوا حياتهم تحت ظروف قاسية وقد نجح بعضهم برغم تلك الظروف السيئة التي تعرضوا لها، وهو أمر أراه يمهد الطريق أمام الشباب حتي لا يقعوا في نفس المآزق التي وقعت فيها معظم "مقتنيات" وسط البلد. وهل تتعامل مع نفسك علي أنك "مقتني" من ضمن تلك "المقتنيات"؟ لفترة طويلة قبل تحققي كأديب، كنت "زيهم" بل واحدًا منهم، وكان من الممكن ألا أنجح فأصبح "مقتني" أو قصة اتمني أن يكتبها الآخرون الذين لا ينظرون لثراء هذا العالم ولا يهتمون كثيرا بالكتابة عنه، ففي الفترة من نهاية السبعينيات وحتي نهاية الثمانينيات كان هناك ثراء أدبي وفني كبير، للأسف لم تتح له الظروف فرصة التسجيل، لأنه لم تكن هناك تسجيلات أو كاميرات فيديو أو غيرها من الوسائل التي نراها الآن، وإلا لكانت تفاصيل مقاهي "علي بابا" و"استرا" وغيرها مسجلة الآن قبل حالة الطمس التي تعرضت لها. - أقول أنني من هؤلاء الناس، وأعتقد أن الكتابة الحقيقية عن الناس هي تلك القريبة منهم، فللأسف حدث تراجع في إبداع كتاب مصريين مميزين لأنه بعد شهرتم انزووا وراء الفتارين الزجاجية والتكييفات و"الساليزون" و"الباتون ساليه" و"الشاليموه"، فأصبحوا يراقبون الناس من خلف هذا الزجاج، مما أفقدهم صلتهم بالواقع وجعل الحكي ينتقل إليهم عبر عدة أشخاص مما يفقد هذا الحكي معناه وإبهاره. هل وسط البلد هي السبب في ضياع مواهب هذه الشخصيات أم أنهم لم يكونوا بالقوة الكافية لمواجهة ضغوط هذه المنطقة؟ - في تلك الفترة التي ذكرتها لم يكن هناك دور نشر سوي الرسمية، خاصة الهيئة العامة للكتاب التي لم تكن تنشر إلا بالواسطة، وبعد سنوات عديدة، فكنا نلجأ للطباعة بنظام "الفوتو كوبي" و النشر بمجلات "الماستر" محدودة الانتشار وغيرها، ولم تكن هناك مسارح أو دور عرض خاصة فنلجأ لمسرح القهوة، وكذلك لم تكن هناك جاليريهات خاصة تحتوي إبداعات الفنانين التشكيليين الشباب، بالإضافة إلي فقر معظمنا واضطرارهم للمبيت علي مقاعد المقاهي وغيرها، كل هذه الظروف قللت من عدد الذين يقعون من عيون الغربال، كما تسببت في العديد من النهايات المأساوية، كأن يهاجر البعض تاركين الجميع أو يتركون وظائفهم ويعملون بأشياء أقل كثيرا من مواهبتهم وهكذا. لماذا أضفت الجزء الخاص بالأماكن؟ وما الجديد الذي قدمته من خلاله؟ -أغلب الأماكن التي دارت فيها هذه الحكايات اختفت أو تدهورت أحوالها أو تحولت لنمط اقتصادي لا يستطيع الشخص العادي الدخول إليه، مثل مقهي "ريش"، فقلت لنفسي إن الناس التي ستقرأ هذه الحكايات لن تتمكن من تحديد شكل أو تاريخ الأماكن التي دارت فيها، في البداية فكرت أن أؤرخ لتلك الأماكن في هوامش الصفحات، لكنني وجدتها ستأخذ مساحات كبيرة، لذلك أرفقت بالكتاب الجزء الخاص بالأماكن وجعلت الجزئين يكملان بعضهما البعض. أهديت الكتاب إلي القراء الذين ساندوك، فهل كنت تتوقع نجاح رواية "تغريدة البجعة" وهل تتوقع نفس النجاح لهذا الكتاب؟ - هذا الكتاب سيقول أنني عشت طويلا في الظل وأنا لست متيقنا من أي شئ، كانت في البداية تراودني أحلام بأن أكون كاتبا كبيرا وأحيانا أشعر بأني لن أكون شيئا علي الإطلاق، وعندما كتبت تغريدة البجعة قلت لنفسي: هذا عمل ارضي عن كتابته مائة بالمائة وأتمني أن يلقي القبول، خاصة مع شعوري بأنه سيجذب قراء جددًا، لكني لم أكن أتوقع هذا النجاح المذهل بالنسبة لي، لهذا كان لابد أن أهدي هذا الكتاب للقراء، فلأول مرة في حياتي يقابلني أناس في الشارع يستأذنونني أن يشتروا الرواية لأوقع عليها، أو أن استقبل تليفونات من قراء عاديين، أو أن تأتيني قارئة تصر علي أن أوقع لها علي فقرات معينة في الرواية أثرت فيها تأثيرا كبيرا وهكذا، أليس من حق القراء إهداء الكتاب لهم، خاصة وأن النقاد لم يبدأوا في الكتابة عن الرواية إلا بعد صدور طبعتها الثالثة، وبعضهم بعد فوزها في القائمة القصيرة لجائزة البوكر. ألا تخشي من أن يقال بأنك متخصص في الكتابة عن وسط البلد؟ - "وسط البلد" تريد أكثر من 100 كاتب لكي يوفوها حقها، وأنا أحب أن اكتب عن شيء أعرفه باعتباري كاتبًا من المدينة، ولن اكتب عن الريف أو الصعيد لأنني حينها أكون اكتب كتابة مزيفة عن مجتمع لم أزره وعشته كسائح، كما أن أغلب كتاب العالم يكتبون عن منطقة وسط البلد الخاصة بهم، وبالمناسبة الرواية التي أعكف عليها ستكون أيضا عن وسط البلد. في رأيك لماذا لم يعد كبار المثقفين والكتاب يقصدون المقاهي خاصة مقاهي "وسط البلد"؟ - في الماضي كان عندنا قناتان تليفزيونيين تغلقان في منتصف الليل، ولم يكن هناك هذا العدد من المكتبات وأماكن الندوات والفعاليات الثقافية، فقط كان يوجد أتيلييه القاهرة ودار الأدباء، فكنا نبحث عن مكان ثقافي يحتوينا ويحتوي إبداعاتنا مثل "استرا" أو "علي بابا"، أما الآن فقد توحشت الميديا وتوغلت القنوات الفضائية وانتشرت الأماكن الثقافية والمكتبات وغيرها فاجتذبت المثقفين وتقاسمتهم فيما بينها. في أكثر من حكاية تتناول مصائر مبدعين قادمين من الأقاليم لكنهم يضيعون في زحام وسط البلد، فهل هذا يحدث إلي الآن؟ - مثقفو الأقاليم يأتون إلي القاهرة تحت اعتبار أنها غبنت حقهم وحجبتهم عن الناس، وهو ما يدفعهم لأن يختاروا أسرع الطرق ليصبحوا كتابا متميزين، ومن أجل ذلك وأمام توحش الحياة وقسوتها يضطرون لتقديم بعض التنازلات، وإن تصارعوا معنا نحن أبناء القاهرة أو تصارعنا معهم، فإن الصراع يكون من أجل البقاء، هذا كان يحدث في الماضي، لكني لا أعرف ما الذي يحدث الآن، هل مساحة الفرص المتاحة أمام القادمين من الأقاليم اتسعت أم لا؟، لكنك ستجدين أن معظم المناصب المهمة يشغلها كتاب جاءوا من الأقاليم. هناك رصد لحال المثقفين اليساريين في بعض الحكايات، فما هي قراءتك لحال اليسار في مصر حاليا؟ - يحزنني حال اليسار جدا، فرغم أنني لا انتمي فعليا إليه، إلا أن اليسار كان يملك عددا من الكتاب والنقاد المتميزين، لكن بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار الفكرة لفت نظري أن جانبًا كبيرًا منهم لم يتمسك بأفكاره بل انقلب لأقصي اليمين أو حتي انضم للإخوان المسلمين، فهل كانوا غير مقتنعين بأفكارهم؟ أو أن الصدمة كانت مفاجأة لهم فأربكتهم؟، هذه الأسئلة شغلتني كثيرا، لأن الانسحاب من الساحة وإعادة النظر في الأفكار أفضل كثيرا من التحول إلي وجهة نظر مغايرة، والآن الكل يتحدث عن حقوق وامتيازات مادية ولم يعد هناك أفكار عظيمة أو حلم قومي. هناك من يري أن المثقفين جزء من إفساد المجتمع، فما رأيك؟ - من يقول ذلك عنده بعض الحق، المفروض أن المثقف عليه أن يقدم فكرًا وحلولاً ورؤي، وهذا لا يحدث، فالمثقفون يتراجعون كثيرا للوراء خاصة في حالة حدوث أزمات، فيكونون أول من تضحي بهم النظم، ففي أزمة الجزائر الأخيرة كاد الفنانون ولاعبو الكرة - مع احترامي لهم- أن يحدثوا قطيعة بين الشعبين، هذا إلي جانب صراعاتهم الدائمة وغياب المشروعات الجماعية فيما بينهم.