عندما تطارد السياسة الأدب، وتدفعه لاختيار منفي بعيدا عن أرض الآباء، فإن التجربة الإبداعية تتخذ شكلا مغايرا للطبيعي، فتتحول إلي صمت قد يطول وقد يقصر، إلي أن تأتي عليه لحظة ينفجر إبداعا، عندما تجد نفسك أمام نص تدفق من مبدعه دون قدرة علي كبح جماحه، فاعلم أنك تقرأ للشاعر اللبناني وديع سعادة، الذي قابلناه خلال مشاركته في الملتقي العربي الثاني لقصيدة النثر بالقاهرة، وتحدث معنا عن الشعر والحياة والسياسة والغربة وغيرها في هذا الحوار. هل هجرتك لأستراليا -حيث اختلاف العادات واللغة- أثرت علي نصك؟ - كل مكان يترك أثرا كبيرا في إنتاج الشاعر، حيث يكتسب مفاهيم جديدة ويدخل في تجارب جديدة، ويصير يري برؤية أخري الأمكنة التي تركها وراءه، كل هذه الأمور وغيرها لابد أن تترك بصمتها علي الشاعر المهاجر والمغترب. هل مسارك الروحي والوجودي والشعري كان سيختلف كثيرا لو كنت في مكان آخر؟ - ربما كان سيختلف، ولكن لا أظن أن هذا الاختلاف سيكون كبيرا، فأنا أري إضافة إلي ما سبق أن الإنسان يحمل مكانه الأول أينما ذهب، فالمكان في رأيي ليس فقط مساحة جغرافية، إنه مكان في الداخل، في الذات تحمله أينما تذهب. ما الذي أضافته لك أستراليا؟ - أستراليا قدمت الكثير، بمعني مفهوم الوطن والوطنية، علمتني أن الديمقراطية غير الديمقراطية الموجودة في العالم العربي، هي غائبة في الواقع، وعلمتني أن حقوق الإنسان هي فعل لا قول، وعلمتني أن تكون أنت ورأس الحكم سواسية أمام القانون، وأمام كل أمور الحياة الأخري ونحن نفتقد هذه المميزات في العالم العربي، ولا يجب أن نضع رؤوسنا في الرمال كالنعامة، هذا إذا أردنا فعلا أن تكون لنا أوطان حقيقية. ما أبرز التقاطعات التي ألقت الضوء علي جوهر هاجسك الإبداعي؟ - كل شاعر يتأثر بقراءاته، والقول بأننا نبدأ من العدم قول بلا معني، لنا آباء ، والآباء كان لهم آباء أيضا وكل هؤلاء لابد أنهم أثروا فينا، أي شاعر هو نتاج كثيرين مروا قبله، لكن المهم أن يكون للشاعر صوته الخاص وخصوصيته، ليضاف إلي الذين يتأثرون به من الأبناء. إلي أي مدي يشغلك الإنسان؟ - الإنسان محور شعري كله، منذ كتابة السطر الأول حتي كتابة السطر الأخير. هل هناك أمل في وجود "فردوس أرضي" يتعايش فيه البشر علي اختلافهم وتعددهم؟ - هذا هو ما يصبو إليه الشعر، لكن هذا في رأيي لن يتحقق، إنه نوع من الأوهام، لكن علينا أن نحافظ علي هذا الوهم، لأن الحياة لا تطاق بدون استدعاء عالم جميل ولو بالوهم. لماذا هذا الاحتفاء بالذات؟ - حين أتحدث عن ذاتي أكون في الوقت نفسه أتحدث عن الآخرين، فأنا والآخر متشابهون، ضمير المتكلم في شعري هو أيضا ضمير المخاطب والغائب، فشعري ليس سيرة ذاتية لشخص فرد هو (أنا)، إنما هو في رأيي سيرة عامة. هل تكتب للبسطاء أم للنخبة؟ - أري أن نصي بسيط للغاية، يستخدم لغة بسيطة تحمل أبعادا أخري، لم أشعر يوما بأني شاعر للمثقفين وحدهم، فشعري منطلقه الناس البسطاء العاديون وبلغتهم البسيطة أكتب. أقيم لقصيدة النثر مؤخرا ملتقيان، كيف تفسر هذا الحراك والانقسام في نفس الوقت بين شعراء القصيدة النثرية؟ - كنت أتمني أن يكون هناك ملتقي واحد لقصيدة النثر بالقاهرة، لأني أري هذا الانقسام يسيء إلي الشعراء جميعا، وقد حاولت خلال وجودي في "سيدني" عبر البريد الإلكتروني أن أجمع الشمل، فكتبت لكلا الملتقيين معربا عن رغبتي في ذلك، وعندما لم تتحقق هذه الرغبة، كتبت إلي القائمين علي الملتقي الأول معربا عن رغبتي في المشاركة فيه أيضا، كما أشارك في الملتقي الثاني، إلا أن اسمي لم يدرج في برنامج الملتقي الأول، وتلقيت دعوة مع تذكرة سفر وإقامة من الملتقي الثاني فشاركت فيه، وكنت أود أن أشارك في الملتقي الأول حتي لا يعتقد أحد أنني طرف في هذا الانقسام، فأنا مع الشعراء جميعا، ولا أفرق بين هذا وذاك، فجميعهم أصدقائي، وأؤكد أني بعيد عن هذه الخلافات. الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة قال: إن الذين يكتبون قصيدة النثر هم الذين أقعدتهم الهزيمة الإبداعية فقادوا موجة من الغموض والفوضي العارمة.. ما رأيك؟ - كل الذين تحدثوا بهذا التهجم عن قصيدة النثر سواء حجازي أو أبوسنة أو غيرهما، كنت أتمني أن يكونوا أكثر وعيا في الرؤية لقصيدة النثر، وهم المثقفون الذين نحترمهم، فأنا ألاحظ أن الكلام عن قصيدة النثر من هؤلاء الشعراء ومن معظم النقاد العرب هو نفس الكلام الذي يتردد منذ ستين عاما، لا يتناول إلا الشكل ويغفل عن المضمون، وعن الأمور الأخري التي تشكل القصيدة، إنهم يتعاملون بأدوات قديمة مع شعر جديد، مع أن أي نص جديد يخلق نظريته الجديدة، ولا يجوز في النقد التعامل معه بنظريات قديمة. لكن في أوروبا يقولون: إن الشعر هو الموسيقي؟ - للنص الشعري الحديث والجيد إيقاع موسيقي يتجاوز أحيانا كثيرة الموسيقي الموجودة في الشعر التفعيلي، هذا الإيقاع علي مستويين: مستوي التزاوج والانسجام الحميم بين الكلمات، أو مستوي الإيقاع الروحي الداخلي الكامن في محتوي النص، بينما الموسيقي في شعر التفعيلة هي موسيقي خارجية شكلية اعتمدت منذ آلاف السنين علي الأذن فقط. متي تكتب قصيدتك؟ - أنا شاعر مقل، لا أكتب إلا حين تطفح الحالة الشعرية بي، وتندلق من تلقاء نفسها، لذلك قد تمر أربع أو خمس سنوات لا أكتب كلمة واحده، وقد أكتب كتابا كاملا في سنة واحدة. متي تمزق قصيدتك؟ نادرا ما مزقت أي قصيدة، فالقصيدة إما أن تنسكب انسكابا تلقائيا في وقت قصير، وإما لا أكتبها إطلاقا. ما علاقتك بالسياسة؟ - إذا كنت تقصد ممارسة العمل السياسي، فأنا بعيد جدا، بل علي النقيض منها، أما إذا كنت تقصد السياسة بمعناها العميق كرؤية وموقف من الأمور والحياة والعالم، فالشعر في رأيي هو سياسة بهذا المعني. لماذا تراجع الشعر أمام الرواية بعد الحرب اللبنانية الأخيرة؟ - الرواية كانت الكتاب المفضل دائما للقراء سواء في لبنان أو غير لبنان، وسواء في العالم العربي أم أوروبا وغيرها، لكن الكتاب الأكثر رواجا لا يعني أنه الأفضل، فالانتشار ليس هو مقياس الجودة الإبداعية، فالرواية رائجة لأنها تعتمد علي القصة والحكاية والتشويق وما إلي ذلك، أما الشعر فيقتضي التأمل والصمت. في ظل الوضع في لبنان كيف تري مستقبل هذا البلد؟ - تردي الأوضاع في لبنان أو غيرها من معظم بلدان العالم العربي سيظل مأزوما ما لم تتغير الذهنية اللبنانية والذهنية العربية، ما لم تتغير المفاهيم السياسية والاجتماعية والثقافية إذا كنا ننشد التغيير إلي الأفضل. هل تفكر في العودة إلي لبنان؟ - لدي أمل في أن أعود إلي لبنان، وإلي بيتي الأول في قريتي "شبطين" في الشمال اللبناني بشرط ضمان سلامة أبنائي وأسرتي، فأقضي وقتا هناك ووقتا آخر في استراليا.