يعتبر ارتفاع نسبة الأمية وتعدد الاشكاليات التي تواجهها المؤسسة التعليمية في بلد ما من المدخلات التي تؤثر سلبًا علي المكون الديموجرافي لها بما ينعكس بشكل مباشر علي عنصر مهم من عناصر الأمن القومي، وإذا ما حاولنا النظر إلي الوضع السائد في جمهورية مصر العربية في ضوء ما تقدم تبرز حقيقة أن الاهتمام بحماية وتحصين الأمن القومي يلزم أن يرافقه جهد ملموس وسعي حثيث للتعامل مع وضعية الأمية في البلاد من جانب، ومظاهر القصور التي تم رصدها في المؤسسة التعليمية من جانب آخر، وهما البعدان اللذان يتصلان بمدي قدرة المواطن علي إدراك مفهوم المواطنة، الذي أضحي أساس النظام في البلاد، وما يتضمنه من حقوق وواجبات وروابط معنوية تقودنا إلي تكريس الوعي بالأمن القومي ومتطلباته. وحقيقة الأمر، أن تاريخ الجهود المصرية في محو الأمية امتد إلي أكثر من قرن من خلال جهود فردية تطوعية حتي صدور قانون التعليم الإلزامي لعام 1924، كما صدرت عدة قوانين لمحو الأمية بدءًا من القانون رقم 110 لسنة 1944، وقانون محو الأمية لسنة 1970 وتعديله بالقانون رقم 40 لسنة 1982، كما كان من المأمول في إطار الاستراتيجية العربية لمحو الأمية وضع خطة للقضاء علي هذه الظاهرة خلال خمسة عشر عاما بدءا من 1960 حتي 1980، ولقد ازداد الاهتمام بجهود محو الأمية عقب تكليف الرئيس حسني مبارك في عام 1989 باعتبار السنوات العشر الأخيرة من القرن الماضي عقدًا لمحو الأمية وتعليم الكبار، الأمر الذي تبعه تشكيل الهيئة العامة لمحو الأمية وتعليم الكبار. وعلي الرغم من تعدد الجهود، فإن التأثير الفعلي علي الظاهرة لم يرق إلي مستوي الطموحات، حيث استمرت المقارنات الدولية لانتشار الأمية تضع مصر في مرتبة متدنية بالمقارنة بغيرها من الدول، وقد انعكس ذلك بدوره علي انخفاض كبير في مؤشر التنمية البشرية، وهو المؤشر الذي يعد حاليا من أهم المقاييس المستخدمة دوليا لترتيب دول العالم من حيث موقعها في التنمية، وإذا كانت الجهود المبذولة في هذا المجال قد أدت إلي انخفاض في نسبة الأمية بين الشريحة العمرية من عشر سنوات فأكثر، حيث تم تسجيل انخفاض هذه النسبة من 49% عام 1986 إلي 39% عام 1096 ثم إلي 29% عام 2003، فإن التدقيق في هذه النتائج يكشف عن العديد من المؤشرات التي تدفع إلي التحفظ في التعامل معها، وهو ما أجمله المجلس القومي للمرأة في النقاط التالية: 1- الانخفاض في نسبة الأمية لا يعني انخفاضًا في عدد الأميين نظرًا للزيادة المطردة في عدد السكان، فالاضافات السنوية للأميين، سواء بسبب عدم الالتحاق بالتعليم أو التسرب من التعليم أو الارتداد إلي الأمية، تزيد علي حجم التناقض السنوي، سواء بسبب التحرر من الأمية أو الوفاة، وتمثل اضافة ذات تأثير كبير في حجم شريحة الأميين. 2- إن الانخفاض يتم بمعدلات سنوية منخفضة لا تزيد علي 2.5%، فمتوسط حجم الانخفاض السنوي في أعداد الأميين خلال الفترة من 1966 إلي 2003 قارب 654 ألف فرد، في حين أن عدد الأميين المتبقي زاد قليلا علي 13 مليون نسمة، الأمر الذي يطرح بقوة التساؤل حول متي سيتم القضاء علي الأمية وفقا لهذه المعدلات المنخفضة؟ 3- إن نسبة الأمية بين الإناث لاتزال أكثر من ضعفها بين الذكور، وينطبق ذلك أيضا علي حجم الفجوة النوعية بين الإناث والذكور التي بلغت 110% عام 2003 . وفيما يخص التعليم، فإنه يعد بلا شك من الأدوات الرئيسية التي تسهم بشكل مؤثر في تكريس مفهوم المواطنة وتعزيز الأمن القومي للبلاد، فأهمية العنصر الديموجرافي الذي يخاطبه مفهوم المواطنة ويرتكز إليه سلبًا أم ايجابًا الأمن القومي بمفهومه الواسع، تعتمد في جانب كبير منها ليس علي الكم وإنما علي الكيف، وهو ما يعني أن المجتمع الذي ترتفع نسبة الأمية بين مكونه البشري يكون أقل قدرة علي التفاعل مع المتغيرات السريعة التي يمر بها العالم في عصر العولمة التي أضحت مصدرًا لا يستهان به من مصادر تشكيل الشخصية والتوجهات والسلوك، وفي الوقت الذي يتم فيه الحديث عن «السماوات المفتوحة» في عصر الفضائيات تعتبر الأمية عاملاً من عوامل ضعف المجتمع نتيجة لعدم قدرة الفرد علي الاستفادة الصحيحة من تلك الفرصة في تنمية الذات وتطوير السلوكيات، بل يتجه إلي خيارات سهلة تشبع رغباته المكبوتة «القنوات الإباحية»، بما يعنيه ذلك من إحداث ثورة في السلوكيات وبروز أنماط جديدة في الجريمة تتعارض بشكل صارخ مع القوانين والقواعد والأعراف في المجتمع، وقد يذهب تفضيل الفرد في حالات أخري إلي التماشي مع توجهاته ومعتقداته «القنوات الدينية» وهو ما قد يحمل في طياته مخاطر إعادة تشكيل تلك المعتقدات علي أسس قد تفتقد إلي قاعدة التسامح والوسطية والاعتدال، بل وقد تشجع في بعض الأحيان علي بروز ظاهرة التطرف العقائدي، مما يسهم في إحداث تطور تدريجي لا شعوري في المجتمعات يفرض بدوره أنماطًا سلوكية قد تساعد علي ايجاب حالة من حالات التوتر الكامن بين مكونات المجتمع خاصة إذا ما كانت متنوعة ومتعددة. ومن المسلم به أن التعليم يعتبر الوسيلة الأولي والمباشرة في تشكيل الأجيال المقبلة وغرس المفاهيم الأساسية في نفوسهم من قبل المواطنة وحب الوطن والخير والشر والثواب والعقاب واحترام الآخر والالتزام بالقانون والنظام والمحافظة علي البيئة.. ألخ، ويفرض كل ذلك جهدًا كبيرًا في تأهيل وإعداد المعلم الذي يمثل الأداة المحورية في تنشئة أجيال المستقبل علي حب الوطن والانتماء إليه والذود عنه والتعرف علي الواجبات جنبًا إلي جنب مع الحقوق لتحقيق التوازن المطلوب في شخصيته وسلوكياته المستقبلية، وعلي صعيد آخر، تشكل سياسة التعليم مدخلاً مهمًا في تحديد نوعية الدور الذي يمكن أن يلعبه العنصر الديموغرافي، في أهم شرائحه والمتمثلة في الشباب، في اضعاف أو توقية الأمن القومي في بعده الاقتصادي، وبعبارة أخري، فإن التعليم إذا ما اقتصر علي تخريج أعداد متزايدة من الشباب حاملي الشهادات دون أن تكون هناك مواءمة بين تخصصاتهم واحتياجات سوق العمل، أو دون أن يكونوا قادرين علي المنافسة في السوق المحلي والدولي، يؤدي بشكل مباشر إلي تضخيم صفوف البطالة المعلنة أو المقنعة وما يتبع ذلك من انعكاسات سلبية علي الفرد والمجتمع والبلاد، لعل أبرزها ازدياد معدلات الجريمة مما يهدد الأمن الداخلي، وهشاشة أو تلاشي مشاعر الولاء أو الانتماء مما يعني ضعف الجبهة الداخلية في مواجهة محاولات الاختراق الخارجية.