مما لا شك فيه أن الأمن القومي للدول ينبع أساسا من معرفتها لمصادر قوتها ونقاط ضعفها، وسعيها لتعظيم وتنمية الأولي وتحييد والتغلب علي الثانية. وإذا كان العنصر الجيوبولوييكي يمثل حقيقة ثابتة لا يمكن الفرار منها من حيث موقع الدولة وما يفرضه من عوامل قوة ومواطن ضعف ومصادر تهديد، فإن هناك العديد من العناصر الأخري التي تلعب من خلالها طبيعة الاعتبارات والعلاقات الداخلية دوراً حيوياً في ترجيح كفة القوة أو الضعف وتعظيم التهديدات أو التقليل من ضخامتها. ويأتي في مقدمة هذه العناصر المكون الديموجرافي بأبعاده ومستوياته المختلفة، من حيث: الكم (عدد السكان ومعدل التكاثر) والتوزيع (تركز الكثافة السكانية في مناطق محددة من أراضي الدولة دون غيرها)، والحيوية (مدي شباب أو شيخوخة المجتمع بمعني نسبة الشباب القادر علي العطاء مقارنة بالشيوخ)، ومستوي المعيشة (معدلات الفقر وشرائحه)، وتماسك نسيج المجتمع (مدي قوة الانتماءات القبلية أو الطائفية أو الدينية مقارنة بالشعور بالانتماء للوطن كمظلة تجب الجميع)، والكيف (الأمية، وارتفاع أو تدني مستوي التعليم والتأهيل الفني والمهني وتوفر الكوادر المدربة)، ومقدار التعبئة لتحقيق التنمية (معدلات العمالة والبطالة الفعلية أو المقنعة)، ومدي المشاركة البناءة في العمل السياسي (نسبة المشاركة في الانتخابات، فعالية الأحزاب السياسية وحيويتها وقدرتها علي طرح برامج وحلول لمشاكل المجتمع) فضلا عن الجاهزية والتلقائية في تلبية الواجبات الوطنية المختلفة وفقا لطبيعة المرحلة. ولا جدال في أن العنصر الديمرجرافي، بعناصره ومكوناته المختلفة، يؤثر بدرجة عالية علي الأمن القومي بمفهومه الشامل من زوايا عديدة، وعلي سبيل المثال يمكن الإشارة إلي ما يلي: قلة عدد السكان تمثل مصدراً من مصادر الضعف؛ حيث تجعل من مهمة تشكيل جيش قوي يدافع عن البلاد في مواجهة ما قد تتعرض له من تهديدات أمراً صعباً، فضلا عما لهذه الوضعية من انعكاسات سلبية علي القدرة علي تحقيق التنمية الاقتصادية، لعدم توافر الكوادر الكافية والمؤهلة لتتولي تلك المهمة، الأمر الذي قد يدفع بالدولة إلي الاعتماد، بشكل شبه كامل- علي العمالة الأجنبية، إذا ما كانت قادرة علي ذلك كما هو الحال في الجانب الأكبر من دول الخليج العربي، الأمر الذي يحمل في طياته مخاطر عديدة يأتي في مقدمتها احتمال طمس الهوية الوطنية، وإدخال أنماط جديدة للحياة تشوه التقاليد الثابتة والسائدة، واحتمال استثمار جهات خارجية لوجود عناصر فاعلة لاختراق أجهزة ومؤسسات الدولة للحصول علي معلومات هامة من شأنها تعريض أمنها القومي للخطر والتهديد سواء كان ذلك علي الصعيد الاقتصادي أو الاجتماعي أو حتي الأمني، أما في حالة عدم توفر بديل فإن قلة عدد السكان وضعف معدلات التكاثر تعني سيادة وضعية شيخوخة المجتمع والتي تنعكس سلباً علي أية جهود حقيقية ترمي إلي تحقيق التنمية المستدامة. وفي المقابل، فإن زيادة عدد السكان بشكل كبير وعدم القدرة علي استيعاب تلك الأعداد في سوق العمل بشكل يساعد علي إشباع كافة احتياجاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، يجعل من الكثافة السكانية عبئا علي كاهل الدولة بدلاً من أن تكون رصيداً في ميزان القوة، وهو ما ينعكس، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، علي الاستقرار الداخلي والأمن ببعديه الشعوري والنظامي، الأمر الذي يؤثر بدوره علي الأمن القومي للدولة. وفيما يتعلق بجمهورية مصر العربية فإن وضعية العنصر البشري فيها تتجه، نتيجة للزيادة المضطردة في عدد السكان والمشاكل المتعددة التي رافقت ذلك، لتصبح عائقاً أمام الجهود المبذولة لتحقيق التنمية المستدامة والارتقاء بمستوي احترام وتلبية كافة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطنين. فمصر تحتل المرتبة السادسة عشرة بين الدول الأكثر كثافة سكانية في العالم في وقت تلتهم هذه الزيادة في العنصر البشري الجانب الأكبر من عائدات التنمية، وتنعكس تلك الوضعية للمكون البشري الذي يتوجه إليه مفهوم المواطنة الذي تم إقراره مؤخرا كأساس للنظام- سلباً علي كل الجهود التي يتم بذلها لترجمة هذا المفهوم، وبعبارة أخري فإن عملية تكريس المواطنة قد تزداد صعوبة في ضوء الحالة الراهنة للعنصر البشري بمعدلات نموه، وتقسيماته، وتصنيفاته، وقدراته العملية والمهنية، ومستوي تعليمه...الخ، وعلي صعيد آخر، فإن عدم القدرة علي إشباع كل الحقوق بالشكل المأمول فيه يفرز ظواهر أخري تنطوي علي العديد من الانعكاسات السلبية، المباشرة أو غير المباشرة، علي الأمن القومي بمفهومه الواسع، ومن أمثلة ذلك: تعريض أمن الفرد للخطر بدرجة عالية نتيجة لارتفاع معدلات الجريمة بأشكالها وأنماطها المختلفة، مما قد يؤدي إلي إضعاف هيبة وسلطة الدولة في بعض المناطق (العشوائيات علي سبيل المثال) وعودة نموذج "الفتوة" أو الرجل القوي الذي يتم اللجوء إليه لتسوية المشكلات في مقابل العائد المالي، أو "البلطجي" القادر علي إحداث الضرر المادي والمعنوي دون خشية من قوة الأمن والقانون. زعزعة أمن المجتمع من خلال بروز تيارات متطرفة أو تغير منظومة القيم والأخلاق بما يتضمنه ذلك من تسلل أنماط سلوكية جديدة لا تتماشي مع عادات المجتمع وتقاليده، ولا تصب في خانة احترام الآخر والالتزام بالقانون، فمع شيوع وضعية البطالة، خاصة في أوساط الشباب، وما يرافقها من حالة إحباط يصبح من السهل التلاعب بمشاعر الفرد وتوجيهها في مسارات أخري لم يكن ليتبعها في ظروف مختلفة، ومن ناحية أخري، فإنه في عصر السموات المفتوحة والانترنت تبرز ظاهرة "العنف الذي يتم تعلمه" بشكل تلقائي ونماذج السلوك السلبي التي قد ينعكس أثرها علي توجهات الشباب العاطل (ذكورا وإناثًا) في تعاملاته مع بعضه البعض أو مع المجتمع بما يترك مجالا واسعا للعنف والاستهتار واللامبالاة وعدم احترام الآخر والشعور بالعداء للمجتمع والذي يقع آنذاك -عن حق أو باطل- في دائرة الاتهام بالمسئولية عن كافة المعاناة والمشاكل المُعاشة. تزايد مصادر التهديد غير المباشر للأمن القومي لما ينتج عن معادلة الزيادة السكانية العالية من جانب، وعدم وجود الإمكانيات الحقيقية لتوفير كافة الحقوق للجميع من جانب آخر، من ثغرات نفسية ومادية توفر أرضية خصبة يمكن استثمارها من جانب قوي الإرهاب أو جهات خارجية تتربص بالوطن وتسعي إلي اختراق الداخل من خلال الأساليب التقليدية من قبيل تجنيد العملاء أو الجاسوسية أو عن طريق وسائل الحرب النفسية المختلفة وفي مقدمتها الدعاية والشائعات التي تجد في الجماهير الغفيرة مرتعا لها بما ينعكس سلباُ علي صلابة الجبهة الداخلية. وإذا كان ما سبق يبرز في عجالة وضعية العنصر البشري في مصر وانعكاساتها المحتملة علي الأمن القومي، فإن المشكلة الرئيسية تظل كامنة في مدي استيعاب الفرد لمخاطر الأزمة السكانية من جانب، ومدي قدرة الدولة علي تكريس مفهوم المواطنة لديه بما يفرضه من واجبات ويتضمنه من حقوق من جانب آخر.