مما لا شك فيه أن المؤسسة التعليمية تلعب دورا أساسيا في تعظيم قوة الداخل في أية دولة نتيجة تعاملها المباشر مع العنصر البشري بهدف الابتعاد به عن خانة عناصر الضعف وتأهيله ليصبح علي قمة قائمة نقاط القوة سواء كان علي المستوي المعنوي أو الثقافي أو العلمي أو القدرة علي الإنتاج والمشاركة الفعالة في جهود التنمية بدلا من أن يكون عبئا عليها، وإذا ما نحينا جانبا مشكلة الأمية التي تم تناولها في مقابل سابق، فإن اهتماما خاصا يجب أن يتم إيلائه لمستوي أداء ونوعية مخرجات المنظومة التعليمية برمتها، فبناء الإنسان الجديد الذي يؤمن بالمواطنة كأساس للنظام السياسي للبلاد، ويشكل مصدر القوة في معادل الأمن القومي لها يبدأ من الطفل الذي يتم تشكيل ملامح شخصيته وتوجهاته السلوكية من خلال عملية تعليمية متواصلة تزوده بمختلف مناحي العلم، وتغرس في نفسه منظومة القيم التي يحتاج إليها المجتمع لتحقيق استقراره ونضهته، ومن أبرز تلك القيم: حب الوطن، الابتعاد عن العنف، والتسامح، وقبول الآخر، والانضباط والالتزام، والمحافظة علي البيئة.. إلخ. وفي ضوء حقيقة أن الطفل- في مراحله السنية الأولي- يميل إلي المحاكاة فإن العبء الرئيسي في هذه العملية، فور انخراطه في التعليم، يقع علي عاتق المعلم والمعلمة من خلال اتباع أساليب تربوية تخاطب عقليته وتسعي إلي تشكيلها في الاتجاه الصحيح، ودون الوقوع في خطأ التعميم أو التقليل من أهمية ما تم إنجازه، فإنه يلزم التوقف أمام عدد من النماذج السلبية والنقائص التي شابت العملية التعليمية، ليس بغرض توجيه الاتهامات وتعديد الأخطاء، ولكن بهدف الحث علي تصحيح المسار للوصول إلي تحقيق الأهداف المرجوة التي تصب في مجملها في صالح الأمن القومي عبر تقوية الجبهة الداخلية بشكل يصبح فيه المواطن خط الدفاع الأول والرئيسي أمام محاولات زعزعتها أو اختراقها أو التلاعب بوحدتها وتماسكها، وفي هذا الخصوص، يمكن الإشارة إلي ما تم الكشف عنه من حالات العنف ضد الأطفال في المدارس، ظاهرة تسرب الامتحانات في بعض المراحل التعليمية خاصة النهائية منها، تآكل القناعة لدي البعض بأهمية الرسالة التعليمية والنظر إليها علي أنها مصدر من مصادر الدخل الإضافي من خلال تكريس ظاهرة الدروس الخصوصية، وحقيقة الأمر أن هذه السلوكيات، وغيرها الكثير، لها تداعيات لا حصر لها علي الطفل والمجتمع، وفيما يخص التداعيات الأمنية نشير علي سبيل المثال إلي ما تفرزه ظاهرة التسرب من التعليم، وما يترتب عليها من تضخيم صفوف الأمية، وعمالة الأطفال، وجميع مظاهر الانحراف، وانتشار ثقافة اللامبالاة وعدم احترام الآخرين، بما يعنيه ذلك من الغرس المبكر لسلوكيات سلبية تنعكس في مراحل لاحقة علي طريقة التعامل مع المحيط الاجتماعي في جميع المجالات بما في ذلك ما يتصل بالأمن انتشار الجريمة بأشكالها وأنماطها المختلفة والمستحدثة وتهديد السكينة العامة تزايد الفوضي ونمط عدم الانضباط والسلوك المروري الاستهتار بقواعد وقوانين المرور واحترام القانون سيادة منطق الاستهتار بقوة القانون سواء للجهل به أو بالأسس الفلسفية التي يستند إليها. وبالنظر إلي التوجه الذي تم رصده في الفترة الأخيرة نحو إدخال مفاهيم حقوق الإنسان في مختلف المناهج الدراسية، يصبح من المهم أن نضع نصب أعيننا الهدف المراد تحقيقه الذي يتخطي مجرد الجانب الشكلي ويتصل بالجوهر والمضمون، فكثير من المواد التي يتم تدريسها في مراحل التعليم الأساسي تتضمن- بشكل أو آخر- الحقوق والواجبات. ومع ذلك فإن هذه المفاهيم تتأثر بشكل مباشر بالإطار العام للعملية التعليمية برمتها، حيث يتم غالبا التركيز علي التلقين علي حساب الاهتمام باستيعاب المضمون وتفهم الرسالة الكامنة وراءه، وعلي سبيل المثال فإن النظافة والحفاظ علي البيئة من بين الموضوعات التي يتم تدريسها للأطفال في الفصول الدراسية الأولي، ومع ذلك فإن حال أروقة المدارس والفصول في نهاية اليوم الدراسي يكشف بجلاء عن أن ما تم تدريسه والتركيز علي حفظه وترديده لم يترسب في ذهن الطفل، وتتمثل خطورة هذا الوضع في أنه يخلق تدريجيا في هذه السن المبكرة فجوة في ذهن الطفل بين النص والواقع وهو ما يمكن أن يساهم في مرحلة سنية أكثر تقدما، وعلي وجه التحديد مرحلة الشباب، في خلق وتكريس فجوة أكثر خطورة في المجتمع بين القانون والسلوك، الأمر الذي يبعد كل البعد عن الشعور بالانتماء وحب الوطن والمواطنة بما تعنيه من واجبات تجاه الوطن تتزامن مع الحقوق، وفي هذا المجال، تبرز بجلاء ضرورة بل وحتمية إعداد المعلم الجديد، وتبدأ هذه العملية بالتدقيق في اختيار العناصر التي توكل إليها هذه المهمة الحيوية والتأكد من تخصصها في المواد التي يتم تدريسها، مرورا بتزويدها بالأساليب التعليمية الحديثة التي تخاطب العقل والإدراك وتتعامل بجدية وانفتاح مع رغبة الطفل في اكتشاف المحيط الاجتماعي وقيمه بطريقة مبسطة، وليس صدها وتركها دون إشباع، وبعبارة أخري. أهمية التركيز علي الجانب التربوي الذي يسير جنبا إلي جنب مع البعد التعليمي في إطار عمل وأنشطة الوزارة، أريد لها أن تطلع بمهمة التربية والتعليم، والتعامل الجاد مع التراكمات السلبية لمفاهيم وممارسات ابتعدت كل البعد عن هذه الفلسفة، وأرست من الناحية العلمية قيمًا مضادة من قبيل التسلط أو التراخي والتقين أو حتي التمييز بين التلاميذ علي أسس مختلفة، ومما لا شك فيه أن مثل هذه التراكمات تؤدي إلي وأد المواهب الوليدة وتشويه الشخصية وانخفاض مستوي تحصيل العمل، الذي تم اختزاله في العديد من الحالات علي في هدف اجتياز الختبارات كفريضة إجبارية، وليس كحاجة ضرورية للمعرفة. وعلي صعيد آخر، أثبتت الدراسة حول البطالة عدم تماشي مخرجات العملية التعليمية مع متطلبات سوق العمل، من حيث النوعية والتخصص والكفاءة المطلوبة، الأمر الذي يتطلب إعادة تقييم جادة للأسس والمنطلقات التي تقوم عليها العملية برمتها بهدف وضع استراتيجية شاملة للتعامل مع هذه الوضعية إذا ما أريد بالفعل معالجة الجذور الحقيقية للمشاكل وخلق كوادر مدربة ومؤهلة للدفاع بعجلة التنمية، بدلا من الاستمرار في توجهات لا تؤدي إلا للتضخيم بين صفوف الخرجين غير المؤهلين لمواجهة متطلبات العصر، ويصبحون حلقة من حلقات الضعف الأمني في المجتمع في ضوء تعاظم فرص الانحراف بينهم بل وحتي سهولة التجنيد لصالح قوي وتنظيمات تسعي لزعزعة الاستقرار انطلاقا من واقع يمثل أرضية خصبة لذلك. وفي النهاية يلزم التأكيد مجددا علي أن غاية هذا المقال هي دق ناقوس الخطر انطلاقا من رؤية متعددة الأبعاد محورها الطفل وهدفها المشاركة في تكريس مفهوم المواطن انطلاقا من تحركات ملموسة علي أرض الواقع بعيدا عن التصريحات والعموميات، بغية تحقيق هدف أسمي وهو تحصين الجبهة الداخلية وتعظيم قدرة الأمن القومي في أحد أهم مكوناته الرئيسية.