يستند وجود الدولة القومية الحديثة إلي توافر ثلاثة عناصر رئيسية تتمثل في: الأرض، والشعب، والسلطة. بما يعنيه ذلك من ضرورة توفّر وعاء جغرافي (الأرض) من جانب، وتكتل بشري (السكان) من جانب آخر، فضلاً عن وجود سلطة قادرة علي ممارسة السيادة سواء في الداخل، من خلال مؤسسات الحكم والتزام المواطنين بالخضوع لقراراتها، أو الخارج عبر الاعتراف الدولي بالدولة وما يستتبعه ذلك من علاقات بأشكالها الثنائية (دبلوماسية- اقتصادية- تجارية- ثقافية...)، والمتعددة الأطراف (عضوية المنظمات والتنظيمات الإقليمية والدولية)، وما يتضمنه من امتلاك القدرة علي الدفاع عن الدولة من التهديدات التي قد تمس بأمنها أو وحدة أراضيها أو بسلامة شعبها. وانطلاقاً من هذا التعريف تبلورت مجموعة من المفاهيم لصيقة الصلة بالدولة وكينونتها، استندت إلي طبيعة ونوعية التفاعل بين الأركان الرئيسية المكونة لها، فضلاً عن طبيعة النظام السياسي القائم وتوجهاته الأيديولوجية، ومن بين المفاهيم التي ترددت كثيراً، تلك الخاصة ب"الوحدة الوطنية" و"تحالف الطبقة العاملة" و"المواطنة".. وغيرها مما يتصل بالمكون الديموغرافي للدولة، والعلاقات المتبادلة بينه وبين السلطة، ودوره في تعظيم أو إضعاف المكونات المتعددة التي ترتكز عليها عملية دفاع الوطن عن وجوده وسلامته واستقراره في مواجهة ما قد يحيق به من مخاطر سواء أفرزتها البيئة الداخلية أو فرضها الإطار الخارجي، وهو ما يصب في خانة مفهوم اصطلح علي تسميته "الأمن القومي". وقد ظهر مصطلح "الأمن القومي" كنتيجة لقيام الدولة القومية في أوربا في القرن السادس عشر الميلادي، ومر بتطور كبير في مضمونه ومحتواه مما جعله مفهوماً مركباً، حيث اعتبره الفكر الغربي - بعد الحرب العالمية الثانية - إنه "قدرة الدولة علي حماية أراضيها وقيمها الأساسية والجوهرية من التهديدات الخارجية وخاصة العسكرية منها، باعتبار أن تأمين أراضي الدولة ضد العدوان الأجنبي، وحماية مواطنيها ضد محاولات إيقاع الضرر بهم وبممتلكاتهم ومعتقداتهم وقيمهم يأتيان في مقدمة العوامل التي ينبني عليها تحقيق البقاء المادي للدولة. ومع تطور مفهوم "القدرة الشاملة للدولة وعناصرها المادية والمعنوية" اتسع مفهوم الأمن القومي ليشير إلي "القدرة الشاملة والمؤثرة للدولة علي حماية قيمها ومصالحها من التهديدات الخارجية والداخلية". كذلك تم تعريف الأمن القومي بأنه "الجهد اليومي الذي يصدر عن الدولة لتنمية ودعم أنشطتها الرئيسية السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية ودفع أي تهديد أو تعويق أو إضرار بتلك الأنشطة". وفي ضوء تعدد التعريفات، ذهب الاتجاه العام إلي الاتفاق حول حقيقة أن التقدم العلمي والتكنولوجي المذهل الذي يسود عالم اليوم قد غير كثيراً من المفاهيم التي كانت سائدة في الماضي، وبالتالي لم يعد الأمن القومي يستند إلي القوة العسكرية فقط باعتبارها كل ما يلزم لتحقيقه وحمايته، بل تعداها إلي مجالات أخري متعددة، وأصبح الأمن القومي حاليا يشمل: الأمن العسكري والسياسي والاقتصادي والجنائي والاجتماعي؛ حيث تعددت الحلقات وتداخلت فيما بينها لتفرز في النهاية أمن الدولة. وخلاصة ذلك أن أبسط تعريف للأمن القومي يتمثل في أنه الإجراءات التي توفر الاستقرار داخلياً، وحماية المصالح خارجياً مع استمرار التنمية الشاملة التي تهدف إلي تحقيق الأمن والرفاهية والرخاء للشعب. وفي حقيقة الأمر، فإن تطور النظرة للمفهوم قد حمل في طياته تعدد مستويات الأمن القومي بين مستوي داخلي، يشمل التهديدات الداخلية سواءً كانت نتاجاً لعمليات إجرامية، أو انعكاساً لتداخلات وامتدادات شبكات الجريمة المنظمة، ومستوي إقليمي يتحدد وفقاً لطبيعة العلاقات القائمة في المحيط الجغرافي المباشر للدولة التي قد تتضمن - في فترة من الفترات - مؤشرات علي تهديدات عسكرية أو أمنية أو اقتصادية أو توجهات تهدف إلي إطلاق عملية تفكيك النسيج الوطني الداخلي وتغذية الانقسامات علي أسس متعددة دينية أو مذهبية أو طائفية. وأخيراً فإن هناك المستوي الدولي الذي هو نتاج التفاعلات علي الساحة الدولية، وطبيعة العلاقات بين القوي الفاعلة ومدي انعكاسات ذلك علي دولة ما في ضوء توجهاتها وتوازناتها وتفاعلاتها مع المدخلات الخارجية التي قد تؤثر بالسلب علي الجبهة الداخلية، أو تضع الدولة في دائرة الاستهداف من قبل قوي خارجية نتيجة اختلاف المصالح والتوجهات والحسابات. وإلي جانب التحدي الأمني التقليدي الذي عهدته المنطقة والمتمثل أساساً في تداعيات الصراع مع إسرائيل، طفت علي السطح احتمالات تهديد داخلي ذي صبغة إرهابية يرتكز إلي "خلايا نائمة" سبق زرعها في المنطقة، لتفعيلها في الوقت المناسب بغرض القيام بعمليات واسعة النطاق ترمي إلي زعزعة الاستقرار وإشاعة البلبلة في عدد من دولها التي تحكمها نظم تم توصيفها من قبل تنظيم القاعدة باعتبارها نظماً "كافرة"، أو لضرب المصالح الأمريكية باعتبارها هدفاً "مشروعاً" لمثل هذه العمليات لتسجيل نقاط في الحرب المعلنة من قبل التنظيم علي "أمريكا والصهيونية"، يضاف إلي ذلك الخطر القادم من جماعات متطرفة - لا علاقة لها بتنظيم القاعدة - ترغب في استثمار الإطار العام لتحقيق أهداف سياسية تدور غالبيتها حول تغيير نظم الحكم في ظل غياب حوار فعّال يمكنه احتواء مثل هذه التوجهات، أو معالجة الأسباب التي توفر لها تربة خصبة للتوسع والانتشار. ومما يسترعي الانتباه أن المواجهة التي دارت علي أراضي الشرق الأوسط بين كل من الولاياتالمتحدة، والإرهاب ممثلاً في تنظيم القاعدة أساساً، قد كشفت عن اتفاق بين طرفيها علي الهدف ألا وهو "إعادة تشكيل المنطقة"، وإن اختلفا حول مضمون وعناصر "الشكل الجديد" لها، كذلك تبني كل من الطرفين "منطق العنف" كأحدي الأدوات التنفيذية لحسم المواجهة والوصول إلي الغاية المنشودة. ولا تقتصر مصادر التهديد المحتملة في شكلها الجديد علي ظاهرة الإرهاب وامتداداتها؛ حيث استندت التوجهات الرامية إلي إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط إلي مجموعة من الإجراءات كان من بينها: تشجيع الطائفية والمذهبية بهدف تفتيت الكيانات القائمة وإعادة تركيبها في شكل جديد، وهو ما يعني تهديداً مباشراً لتماسك الجبهات الداخلية من خلال تشجيع مقومات الانقسام بين مكوناتها، وفضلاً عن ذلك، مثلت "العولمة" - في جانبها السلبي - مصدراً جديداً من مصادر التهديد للأمن الداخلي والقومي للدول النامية، خاصة في ضوء ما أوضحته بعض الخبرات من وجود صلات وثيقة بينها وبين شبكات الجريمة المنظمة، وتشجيعها للفساد الداخلي بغية الوصول إلي تحقيق أكبر قدر من الربح حتي وإن كان ثمن ذلك تأجيج الصراعات الداخلية وتغذيتها. وبالنظر إلي تعدد التحديات النابعة من الخارج، وتلك التي ترتبط بتطورات الأوضاع الداخلية من حيث مدي اقترابها أو ابتعادها عن الإصلاح المنشود من قبل المواطنين، برزت أهمية مفهوم "المواطنة" الذي يمكنه - في حال ما تم اتخاذ الخطوات اللازمة لترجمته علي أرض الواقع، بما يستتبعه ذلك من عملية ترسيخ له في الوعي الفردي والجماعي - أن يشكل صمام أمان يضمن تحقيق الأمن والاستقرار ل"المواطن" و"الوطن"، بما يصب في خانة تعظيم وتحصين الأمن القومي.