جاءت الأحداث المؤسفة التي شهدتها البلاد في الساعات الأولي في العام الجديد لتعيد طرح موضوع المواطنة بقوة علي الساحة، بشكل يجعل منه ليس فقط غاية يلزم العمل علي الوصول إليها، بل وكذلك وسيلة لتحقيق الأمن بمستوياته وأبعاده المختلفة، وبعيداً عن الجدل الدائر حول ملف تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية ودوافعه والقوي الواقفة وراءه والمحاولات الرامية إلي إخراجه عن سياقه واتخاذه مدخلا للوصول إلي تحقيق أهداف ومصالح متباينة سواء من الخارج أو الداخل، قد يكون من المفيد الإشارة إلي عدد من النقاط الجوهرية: 1- يعد موضوع المواطنة من الموضوعات المحورية التي يلزم التركيز عليها لما لها من أبعاد عديدة من جانب، وتداعيات خطيرة علي كل من "المواطن" و "الوطن" من جانب آخر. وإذا كان تبني مفهوم المواطنة في التعديلات الأخيرة للمادة الأولي من الدستور قد جاء نتاجاً للعديد من العوامل والاعتبارات الداخلية والإقليمية والدولية، فإن مجرد القيام بذلك لا يعني بشكل تلقائي أنه قد تم تحقيق الهدف المنشود؛ حيث تم رصد العديد من الظواهر في المجتمع والتي لا تنسجم بشكل تام مع مكونات هذا المفهوم، في وقت شاع فيه الحديث عن تقسيمات بين شرائح وقطاعات المجتمع استناداً إلي معايير متعددة. 2- أن للأمن القومي العديد من الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية والجغرافية، كذلك فإن جانباً كبيراً من مكوناته له صلة وثيقة بالداخل خاصة فيما يتعلق بتماسك الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي بما يؤدي إلي دعم الوحدة الوطنية، وترتبط كل هذه الأبعاد بمدي التجسيد الفعلي والعملي لمفهوم المواطنة وترسيخها بين مكونات الشعب، مما يجعله في خندق واحد في مواجهة التحديات. 3- يعتبر الفرد حلقة من حلقات القوة أو الضعف في ميزان الأمن القومي في ضوء مدي استجابته لمحاولات الاختراق التي قد تقدم عليها القوي المنافسة أو المعادية سواء للحصول علي موضوعات مهمة بالنسبة لها عن موضوعات حساسة يمكن استغلالها ضد البلاد، أو للسعي إلي "تجنيد" عملاء يعملون لصالحها في الخفاء بشكل يؤثر سلباً علي بلادهم فيما يعرف ب"الجاسوسية". 4- يتصل خطر الإرهاب اتصالاً وثيقاً بهذا الموضوع، وتتمثل أهمية هذه النقطة في أن عدم إشباع الحاجات الأساسية للإنسان واحترام حقوقه يصب في النهاية في خانة الشعور بالظلم الاجتماعي مما يسهم في إيجاد بيئة قابلة لتقبل أفكار خارجية أو متطرفة والتعاطي معها، إن لم يصل الأمر إلي حد اعتناقها وتبنيها. ومع تدني الرابطة المعنوية مع الوطن وشيوع الشعور بالإحباط في مناخ من الفقر والحاجة يسهل علي البعض الانسياق وراء تيارات تمتلك القدرة علي تعبئتهم فكرياً ونفسياً لصالح مشروعات تخريبية تمس بأمن الوطن واستقراره ورخائه. 5- يقف مفهوم المواطنة بمعناه الدقيق كخط دفاع أزلي أمام أية محاولات لزعزعة استقرار البلاد والمساس بوحدتها الداخلية من خلال تغذية النعرات القبلية أو الطائفية والمذهبية داخلها، فالمواطنة توفر مظلة كبيرة لكافة مكونات الوطن التي قد تختلف فيما بينها من حيث الانتماء إلي عشيرة أو قبيلة أو طائفة مذهبية أو دينية أو إلي أديان مختلفة، فحقيقة الأمر أن شعور الجميع بأنهم مواطنون ينتمون إلي وطن واحد يفرض سمو رابطة المواطنة علي الانتماءات الأخري دون إلغائها، ولقد أثبتت التطورات التي شهدتها المنطقة العربية في العقدين الأخيرين الأهمية القصوي لمفهوم المواطنة في واقع ذاع فيه الحديث عن محالات إعادة تشكيلها من خلال عملية تستهدف تفكيك الكيانات القائمة وإعادة تركيبها علي أسس جديدة ترتكز أساساً إلي الطائفية. وفي الختام يبرز بجلاء أن تكريس مفهوم المواطنة، في كافة جوانبه، يؤدي إلي تماسك الجبهة الداخلية وينأي بها عن المخاطر التي تتهددها سواء جاءت من القوي المناوئة أو المخططات الخارجية أو الصراعات الدولية في شكلها الجديد في ظل عصر العولمة، ويمثل هذا المقترب الوقائي أفضل الطرق للتعامل مع التهديدات قبل وقوعها، بدلاً من تكثيف الجهود للسعي لاحتواء النتائج؛ التي قد تذهب في اتجاهات متضاربة لا يخدم بعضها القضية المحورية المتصلة بضرورة إحساس المواطن بالقيم الرئيسية التي تعكسها المواطنة الحقيقية وعلي رأسها الانتماء والولاء والأمن والمساواة وعدم التمييز. مؤلف كتاب «المواطنة والأمن» تقديم أ. د. بطرس بطرس غالي 2009.