في خضم التعديلات الدستورية الأخيرة عقد المجلس القومي لحقوق الإنسان سلسلة من اللقاءات وورش العمل تناولت العديد من القضايا وثيقة الصلة بمفهوم المواطنة تم تتويجها بمؤتمر شامل عقد في نوفمبر 2007 وأسفر عن تبني إعلان حقوق المواطنة الذي تم النظر إليه علي أنه يوفر مدخلاً جاداً لتسليط الضوء علي عدد من إشكاليات المجتمع المصري يجمعها قاسم مشترك باعتبارها تطبيقات عملية لمفهوم المواطنة في شتي صوره وجميع مقتضياته ومن هذا المنطلق يمكن القول إن الإعلان أرسي أسس التوجه الهادف إلي تكريس هذا المفهوم الذي تبنته المادة الأولي من الدستور المصري في تعديلها الأخير عام 2007. وإذا كان الشاغل الرئيسي للمجلس في تناوله لملف المواطنة تمثل في تناول أبعادها المتصلة بحقوق الإنسان فإنه من الملاحظ أن المجتمع المصري قد شهد علي مدار العقود الماضية تطورات هيكلية تراكمت بشكل تدريجي لتفرز نتاجاً جديداً طرح نفسه بقوة علي المشهد تحت مسمي ظاهرة العنف التي مثلت بدورها وفي آن واحد أحد مدخلات ومخرجات نماذج مختلفة لانتهاكات حقوق الإنسان تتغذي جذورها العميقة علي الانعكاسات الناجمة عن نقائص المجتمع من قبيل: الابتعاد عن قيمة المساواة بما يعنيه ذلك من أنماط سلوكية قائمة علي الإبعاد والإقصاء والانحراف عن مبدأ تكافؤ الفرص بما يولده ذلك من زعزعة في معايير العدالة فضلا عن عدم تلبية الحق في العمل بما يحمله في طياته من مخاطر بروز أشكال عديدة للعنف بين ملايين الشباب العاطلين عن العمل. ومن هذا المنطلق قد يكون من المفيد طرح هذه القضية المهمة علي أعمال المجلس في مؤتمره الثاني حول المواطنة المقرر عقده هذا الشهر لما لها من علاقة مباشرة بهذا المفهوم من جانب وما يمكن أن تمثله من تهديد علي التحركات الهادفة إلي تكريسه من جانب آخر ففي ضوء تصاعد وتيرة ظاهرة العنف في المجتمع وتعدد أنماطها تبرز أهمية تركيز الضوء عليها ليس فقط بهدف رصد دوافعها وإنما أيضا للسعي إلي تحديد التصدي لها من خلال استراتيجية واضحة ومتكاملة تستند ليس فقط إلي التعامل الأمني وإنما وبشكل أساسي إلي أساليب تهدف إلي القضاء علي جذور العنف التي امتدت لتجعل منه حصاداً متجدداً وإن كان بأشكال مستحدثة ينخر في جسد المجتمع ويلحق الأذي بكل من مفهوم المواطنة وأسس حقوق الإنسان في آن واحد. وفي هذا الخصوص تجدر الإشارة إلي أن الاهتمام المتواصل من قبل المجلس القومي لحقوق الإنسان بملفي المساواة وعدم التمييز يستند إلي العديد من الأسس المنطقية والواقعية تتلاقي جميعا لتصب في دائرة ضيقة هي المواطنة التي تمثل بدورها بؤرة لدائرة أوسع ترسم حدودها مبادئ حقوق الإنسان فعدم تجسيد هاتين القيمتين علي أرض الواقع يفرز تداعيات سلبية وفي مقدمتها ظاهرة العنف التي تنتهك أبسط قواعد حقوق الإنسان ويهتز أمامها مفهوم المواطنة بجوانبه المختلفة حيث أنها لا تقتصر علي المساس بجوهره المادي الحقوق والواجبات وإنما أيضا المعنوي الولاء والانتماء وقد تصل في بعض الحالات إلي التأثير علي البعد القانوني الجنسية وحقيقة الأمر إن انتشار العنف في مجتمع من المجتمعات واتخاذه أنماطاً جديدة يعتبر أبرز المؤشرات علي أنه لم يتم بعد الوصول إلي مرحلة التجسيد الحقيقي لمفهوم المواطنة علي أرض الواقع فالعنف في أبسط مفاهيمه ما هو إلا تعبير سلوكي نابع من حالة نفسية يساهم العديد من المشاعر والأحاسيس في تشكيلها ومن أبرزها: الشعور بالإحباط نتيجة لبعض الممارسات التي قد تعكس التمييز بين الأفراد استناداً إلي معايير غير مرئية تطورت مع مرور الوقت لتقترب من القاعدة أكثر من كونها مجرد استثناء أو التواجد في وضعية الحاجة بسبب الفقر الذي تزايدت معدلاته وتعددت أسبابه ودخلت في دائرته شرائح جديدة كانت بمنأي عنه، إما لتداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي ضربت، بدرجات متفاوتة، كافة بلاد العالم، أو للافتقار إلي معايير الشفافية والنزاهة الذي أسفر عن تغير ملحوظ في معايير الغني والثروة، مما انعكس بدوره علي المعايير المتعارف عليها لتصنيف الفقر ومستوياته.. وفي حالات أخري قد يكون انسداد الطرق للحصول علي عمل مناسب، مؤثرا قويا علي التوجهات السلوكية للعاطلين، التي قد تأخذ منحي عنيفاً تجاه كل من الفرد والجماعة بدافع من الحاجة إلي المال أو الغيرة أو الرغبة في الانتقام، بما يعنيه ذلك من وقوع انتهاكات جديدة لحقوق الإنسان. وفي ضوء ما تقدم يصبح واضحا أن تحميل الأجهزة الأمنية المسئولية وحدها في هذا الخصوص، كأن العنف هاجس أمني فقط أو في الأول والأصل، يعتبر منافيا للواقع والحقيقة، فمع التسليم بأهمية ومحورية دور المنظومة الأمنية في التعامل بحزم مع مظاهر العنف، والسعي الدءوب لوأدها في المهد من خلال بذل قصاري الجهد لتحييد العناصر الخطرة، فإن تعدد الأسباب والدوافع التي تفرز العنف وتتطلب المنهج المتكامل لفهمها، تمثل حقيقة تنسحب بشكل تلقائي علي سبل التعامل مع الظاهرة، التي يجب ألا تقتصر علي المستوي الأمني دون غيره من المستويات.. وبعبارة أخري، تستلزم مواجهة العنف في المجتمع المصري، إذا أريد لها أن تكون فعالة وناجحة، وضع استراتيجية متعددة الأبعاد ومتشابكة الأطراف، تتخطي الجانب الظاهري للعنف والمتمثل في الأفعال وتغوص في العمق لتتعامل مع الجذور العميقة التي تساعد علي تضخيم حجم الظاهرة وزيادة نسبة مرتكبيها ومعدلات وقوعها. وقد يكون من المفيد التذكير بأن أصواتاً قد ارتفعت في السنوات الماضية مؤيدة لهذا التوجه الشامل، ومن بينها طرح المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية لفكرة إنشاء مجلس قومي لمواجهة العنف، وكذلك ما تضمنه إعلان حقوق المواطنة الصادر عن المؤتمر الأول للمواطنة الذي نظمه المجلس القومي لحقوق الإنسان من الدعوة إلي إنشاء ولاية جديدة تختص بشئون المواطنة وتتمثل في المقرر الخاص بالمساواة ومناهضة التمييز، وبالرغم من هذه المقترحات وغيرها، فإن قراءة الواقع الفعلي تشير إلي عدم تبلور ملامح واضحة لتحرك قومي متكامل يتعامل مع ظاهرة العنف بطريقة منهجية تهدف إلي تحجيمه والإقلال من وتيرته المتصاعدة، والعود به إلي وضعه كظاهرة هامشية، من هنا تنعقد الآمال علي قيام المجلس القومي لحقوق الإنسان بالتعامل بجدية خلال أعمال مؤتمره الثاني للمواطنة مع هذا الملف الشائك، ودق ناقوس الخطر باعتبار أن التصدي لظاهرة العنف وجذورها في المجتمع قد ارتقي إلي مصاف المصلحة العامة والأمن القومي.