لم أكن أعتقد أبدا أن يترك أبي لنا إخوتي وأنا - وصية.. لأن المتعارف عليه أن من يترك وصية لأبنائه هو الرجل الغني الذي يقسم أملاكه لأبنائه لتوزع فيما بينهم من بعد رحيله.. ولكن أبي ترك لنا وصية خطها بيده المباركة وبخطه الرائع الجميل مثله.. وتركها مع صديق حبيب له ولأسرتنا الصغيرة منذ خمس سنوات.. وهدمت وصيته ما رتبناه كله في لمح البصر مع أنها صفحة واحدة بيضاء كلون وجه أبي وقلبه.. يبدو أن أبي كان غنيا ولم نكن نحن نعلم ذلك بصورة صحيحة.. لأنه ترك لنا وصية عامرة بكنوز لا أعلم كيف سنديرها أو إذا كنا نقدر علي حملها.. كنز الكنوز في تلك الوصية هو كنز المحبة.. إذ يطلب أبي منا بعد رحيله أن نحمل كنزه من المحبة الخالصة لا لبعضنا البعض - لأنه أمر مفروغ منه - بل لجميع الناس حتي الذين لا يحبوننا - هكذا كتب - وألا تكون في قلوبنا أي مشاعر كراهية علي الإطلاق، بل نجتاز حياتنا في محبة للجميع.. نعم كان صديقه يقرأ لنا الوصية ونحن وهو نبكي، لأن أبي كان فعلا مثالا للمحبة والغفران للجميع.. وهذا كنزه الذي لم نلتفت كثيرا له، ولسنا نعلم إذا كنا سنقوي علي تنفيذ تلك الوصية.. كنا قد كتبنا صيغة النعي التي سننشرها في الجرائد وقمنا ببعض الترتيبات قبل حضور صديق أبي بالوصية.. وإذا بقراءتها تغير كل ما أعددناه وتظهر كنزا آخر لم نقف عنده كثيرا بالرغم من أن أبي كان يمتلكه.. فقد كتب بخط رشيق - وقد عهدت أبي رشيقا في بدنه كما في خطه منذ كنت طفلة - كتب أنه لا يريد نعيا ولا مظاهر حزن ولا إعلانات بأي شكل، ولا يريد سوي ما هو (متواضع جدا جدا).. نعم هكذا كتب.. لأنه كان يحمل كنز التواضع الذي تقريبا لم نعد نراه عند أحد.. عالم مثله حصل علي درجة الدكتوراه في أواخر الستينيات من القرن الماضي، ومع هذا لم يكن أبدا يفاخر بدرجته أو حتي يذكرها.. تتخرج علي يديه أجيال من معلمين، فيدعوهم زملاء.. يعيش متواضعا بالرغم من عظمته ويصر علي أن يبقي متواضعا رغما عنا حتي بعد انتقاله.. هل يضع إنسان أمام عينيه لحظة الرحيل من العالم الفاني إلي العالم الباقي فيكتب مثل تلك الوصية، ويطلب أن يغفر له الجميع أخطاءه في حقهم، ويترك من ماله ما يعطي للفقراء عند رحيله، ويوصي أبناءه باتباع الوصايا الإلهية وحفظ كنوز المحبة والتواضع والعطاء دون مقابل، ثم يطلب منهم بعد كل هذا ألا يبكوا علي رحيله ولا يحزنوا؟ ألا يعني هذا أن الملائكة يتناقصون؟ أبي: نعلم أنك إنما انتقلت إلي مكان أفضل، وصحبة أفضل.. وأنك ملاك عاد لوطنه بعد رحلة غربة في أرض مؤلمة تحملت منها ألم المرض الموجع دون أن تتأوه، ودون أن يعبس وجهك البسام أبدا.. ونثق أنك الآن في راحة وسعادة، ولكن دموعنا لا تطاوعنا، وتنهدات قلوبنا لا تستجيب للسكوت علي خسارتنا الكبيرة برحيلك.