فى حياة مصر رجال سطروا على صفحات تاريخها أعظم ملاحم القتال والبطولات، وشهداء سجلوا بدمائهم الغالية نصراً لمعارك خاضوها من أجل استرداد وعزة وكرامة الوطن.. واعترافاً منا بفضل وجميل هؤلاء الرجال والشهداء نهدى إليهم السطور القادمة التى هى عبارة عن زيارة إلى بيت شهيد من شهداء مصر، والذى كان بطلاً من أبطال معركة 65. إنه الشهيد المقدم محمود عبدالحميد التلت، فتحية منا إلى روحه الطاهرة، وإلى كل روح فاضت إلى بارئها وهى تدافع عن مجد بلدنا ومستقبل أجيالها.. سلام إلى شهداء مصر. كانت مثيرة للتأمل بقدر ما كانت شامخة كصاحبها الذى تحمل اسمه، إنها اللافتة التى وجدتها بجوار مدخل فيللا الشهيد التلت، والتى كانت تحمل اسمه وبجوارها عبارة رب ابن لى عندك بيتاً فى الجنة. فقد أصرت أسرة الشهيد على وضع اسمه على البيت الذى يقطنون فيه كرمز وكحماية لهم فى نفس الوقت، فقد كان رمزهم فى التضحية والفداء من أجل الوطن، وفى نفس الوقت هو الحماية لأنه الأب والحضن الدافئ الذى يشتاقون إليه، فقد استشهد تاركاً زوجة صغيرة وأبناء لم يتجاوز كبيرهم الحادية عشرة، ولكن عمره لم يضع هباء وشهادته لم تضع سدى، فقد انتصرت مصر كما كبر أطفاله وأكملوا مسيرته وأصبحوا قادة يفتخر بهم وطنهم، فابنه الأكبر هو العقيد بحرى محمد محمود التلت بهيئة قناة السويس ثم الابنتان زينب وفاطمة التلت واللتان أصبح أبناؤهما فى عمر الشباب، والأخير هو العقيد حسين التلت بسلاح المظلات والذى حرص على أن يدخل الجيش استكمالاً لمسيرة والده الشهيد. وها هى زوجة الشهيد الحاجة عواطف والتى استقبلتنى بوجه باسم بشوش، وبقلب رائع احترمته كثيراً لما حمل على عاتقه من مسئوليات عمرها سبعون عاماً، فقد استشهد زوجها منذ 05 عاماً، ومن وقتها وهى الأب والأم والعائلة وكل شىء لهؤلاء الأبناء، وكما قالت: لقد نفذت وصية زوجى الشهيد، وقمت بتأسيس هذا البيت وجمعتهم حولى كل واحد منهم فى شقته، وأنا فى شقتى، فهكذا طلب منى الشهيد قبل استشهاده، وقد كان محمود زوجى مثالاً للزوج الرائع الطيب المحترم الحنون، فقد عشت معه 31 عاماً قبل نيله الشهادة لم أتذكر يوماً أنه ضايقنى أو شيئاً من ذلك القبيل، كما كان تقياً متدنياً ورعاً دائماً يذهب إلى الحسين ويصلى فيه، فطالما كان هذا المكان مقرباً له وطالما ذهب إليه فى كل إجازة كان يحصل عليها، وكان دائماً يدعو الله أن ينال الشهادة، وكنت أبكى عندما أسمعه يدعو بهذا الدعاء وأقول له: ماذا سأفعل بدونك أنا والأولاد؟ فيرد مبتسماً: كلنا سنموت، ولكن منزلة الشهيد عند الله شىء آخر، والحق يقال إن هذا الشىء قد صبرنى قليلاً عندما سمعت بخبر استشهاده، فقد كنت على يقين أن هذه كانت دعوته، وأنه نال الشهادة وهو راغب بها، ومحمود هو قريب لى، ونحن من بلدة قريبة من المنصورة، وكان زاهداً فى الدنيا، فلم يكن يحمل فى محفظته أكثر من خمسين قرشاً ويترك باقى النقود فى المنزل، وقد حارب عام 84 فى فلسطين وأصيب فيها ودخل المستشفى العسكرى، وكان بطلاً فى معركة أبو عجيلة فى حرب 65، ونال الشهادة فى حرب اليمن 03 مارس 3691 عن عمر يناهز 14 عاماً. وعن ذكريات حرب 65 تكمل الحاجة عواطف: أيام الحرب كان حسين أصغر أبنائى عنده 7 شهور، فأخذته هو وإخوته وذهبت إلى البلد، وهناك عرفت أن القتال توقف والجيش قادم منسحب على الأقدام، فخشيت أن يكون حدث له شىء ورجعت على الفور لأبحث عنه، فدخلت المستشفيات كلها كقصر العينى ودار الشفاء، ولكنى لم أعثر له على أثر فمكثت فى منزلنا القديم فى مصر الجديدة، وهناك أبلغنى أحد أقاربى أن زوجى قد اتصل به من الإسماعيلية، لأننا لم يكن عندنا تليفون فى ذلك الوقت، وقال إنه سيأتى، وبالفعل ذهبت إلى أقاربى فوجدته جالساً والحق يقال كان منهاراً بالكامل، وحكى لى أنه مشى 11 يوما فى الصحراء، وكانت الحياة قاسية جداً هناك، وقد عاد إلى بيت الخبراء فى الإسماعيلية بعدها، وقام بحلق ذقنه وغسل ثيابه ثم رجع إلى القاهرة صباح اليوم التالى، وبعد ذلك رجعت معه والأولاد إلى بيتنا وظل مريضاً بعدها فترة طويلة نتيجة البرد وسيره حافى القدمين كل هذه المدة، وفى هذه الأثناء أرسلت له الرئاسة سيارة لتنقله إلى دار الشفاء وقاموا هناك باللازم وطلبوا منه المكوث عدة أيام، ولكنه رفض لأنه لم يكن يحب المستشفيات، وأخذ إجازة وذهبنا إلى المنصورة. وبعينين دامعتين تروى لنا الحاجة عواطف لحظات سماعها نبأ استشهاده: كان محمود معتادا على أخذ إجازة كل خميس وجمعة، ولكنه فى مرة من المرات لم يأت فانتظرناه طويلاً، وفوجئت به يحدثنى فى التليفون ويقول لى إنه مسافر الآن إلى اليمن فى مهمة، وأنه يحدثنى من على ظهر المركب، فانهمرت فى بكاء شديد وقلت له: ألن تأتى لتودعنا، فقال لى: لا يوجد وقت، فالمهمة جاءت مفاجئة، وأخذ يوصينى على الأطفال ويقول لى: إنك كنت دائماً قوية وبنت حلال يا عواطف، وأنت الآن عمود البيت فارعى الأطفال واحكى لهم عنى إذا لم أرجع، وكان يحدثنى وصوته ضاحك فرح، وتلك كانت آخر مرة أحدثه فيها يوم 31 نوفمبر 2691، وسافر محمود وكان يرسل لى جواباً كل يوم ويشكو لى من صعوبة الجو وحرارته، وكنت بدورى أبعث له رسائل لأثبته وأدعمه، وظل الحال هكذا حتى يوم 92 مارس فبعث لى كعادته خطابا وفوجئت أننى لمدة ثلاثة أيام متتالية استلمت جوابات، ولكن بنفس التاريخ 92 مارس 3691، وفوجئت بأخى الدكتور عبدالسلام يدخل بيتى مهرولاً فى أحد الأيام ليخبرنى بأن محمود مصاب فى المستشفى، ولكنى شككت فى الأمر لأن الشهيد كان قد أوصى أنه فى حالة استشهاده يتم إبلاغ أخى وليس إبلاغى أنا، فوجدتنى أقول له: لقد استشهد محمود، فقال لى: نعم. ولم أدر بعدها بأى شىء، فلقد ظللت عاما بأكمله فاقدة النطق لا أستطيع فعل أى شىء حتى تم السماح لى بالحج، فذهبت وهناك شعرت أننى قد ولدت من جديد، ورجعت لأكمل المسيرة وأنفذ وصية الشهيد، فقد رسم لى محمود خطة سيرى قبل استشهاده، وبالفعل سرت عليها فلملمت شمل أبنائى وكنت لهم الأب والأم، ولم أكن أبكى أمام أبنائى على الإطلاق حتى لا يشعروا بشىء، وحتى الآن يأتى محمود دائماً لى فى المنام ليخبرنى أنه يبيت معنا كل ليلة، وأنه دائماً بجوارنا. وذات مرة جاءنى بالمنام وأعطانى تفاحة كبيرة جداً وقال لى: إنها تفاح الجنة، والحق يقال إننى لفترة طويلة لم أصدق أن زوجى استشهد فأنا لم أعثر له على جثمان، حتى جاءنى صول كان معه وقت الحادث، وأكد لى أنه استشهد فى انفجار طائرة، وأنه كان معه وعرض عليه هو وطيار الطائرة أن يهبط بالباراشوت الوحيد الذى كان موجودا، ولكنه قال: وهل أهرب من لقاء ربى، وهنا التقطت الابنة الثانية زينب التلت طرف الحديث قائلة: وقت استشهاد أبى كنت صغيرة- 01 سنوات - ولا أتذكر ما حدث جيداً فكل ما أذكره هو أن أبى كان حنوناً طيباً متديناً جداً، وكان زاهداً فى الدنيا يحدثنا عن الاستشهاد دائماً، وعندما توفى لم تشعرنا والدتنا بأى نقص، وقامت بتربيتنا على خير وجه، وكل ما أستطيع قوله هو أن أبى كان آخر الرجال المحترمين. أما فاطمة فهى الابنة الثالثة وهى خريجة تجارة كأختها الكبرى زينب، فقد أكدت أيضاً على أن والدها كان مرتبطاً جداً بسيدنا الحسين وكان يذهب إليه باستمرار. ثم أخذت الاثنتان تطلعاننى على الصور العائلية لهم وللشهيد التلت، وذكرت مدام فاطمة شيئاً طريفاً جداً، وهو أن الحاجة عواطف دائماً تقول لأحفادها أن جدهم الشهيد كان أحلى من أحمد عز وهو زوجها الذى تحبه دائماً. وقد سمح لنا اللواء عبدالمنعم خليل- وهو الصديق المقرب للشهيد التلت- بالاطلاع على مذكرات كتبها الشهيد المقدم بكباشى التلت بيده عن ذكريات معركة أبو عجيلة، وهذه المذكرات تنقسم لجزءين الأول: أحداث عسكرية للمعركة، والثانى: رحلة الانسحاب والتى تضمنت مشاهد إنسانية رائعة تنم عن روح حساسة عظيمة للشهيد التلت، ولقد كان الشهيد محمود عبدالحميد التلت.. رجلاً بمعنى الكلمة- رحمه الله- هو وكل شهيد ضحى بنفسه من أجل بناء مستقبل وطننا.. فسلام سلاح له ولكل شهيد مصرى غال.