"مبروك يا مصر" لم تكن تلك التهنئة التي بادرني بها فلاديمير بولياكوف كبير باحثين في معهد الدراسات الشرقية بالأكاديمية الروسية للعلوم، تفسيرا للأجواء الكروية التي صاحبت إجراء هذا الحوار، بقدر ما هي تعبير عن عشق فلاديمير لمصر وارتباطه بها، فطالما دوما ظلت بحسب تعبيره "قبلة الشرق بالنسبة للروس"، وبنفس العشق والبساطة يفاجئك بقول: "أنا زملكاوي"، ثم ما تلبث أن تكتشف سر دعابته بمعرفة محل إقامته وقتها في مصر، 11 ش شجرة الدر بالزمالك، وهو تحديدا مقر جريدة "برافدا" الروسية، التي عمل بولياكوف مراسلا لها من مصر مدة 15 عاما. حضر فلاديمير إلي مصر أول مرة في مارس 1986، مراسلا ل"برافدا" أكبر جريدة روسية، يتذكر: "ظللت مراسلا من القاهرة 15 سنة إلا شهرين"، إلي جانب الأخبار والوقائع السياسية التي تعيرها الجريدة الروسية العريقة الاهتمام الأول، إلا أن فلاديمير عايش وسجل أكثر اللحظات التاريخية والثقافية الفارقة في حياة مصر، من هناك سجل مثلا لحظات حصول نجيب محفوظ علي جائزة نوبل، كما شهد افتتاح دار الأوبرا، وافتتاح أول خط مترو أنفاق، وأوبرا عايدة بالأقصر، يقول إنه عندما وصل إلي مصر، اكتشفت أشياء روسية بطعم مصري، فقد فرح مثلا عندما وجد "كشكا" صغيرا في منطقة مصر الجديدة يبيع كتبا روسية، أما في مصر القديمة فيؤكد أن أحدهم دله علي مقابر لأشخاص روسية، ومن هنا أصبح المستشرق الروسي شغوفا بتجميع كل المعلومات عن الوجود الروسي التاريخي في مصر، بما في ذلك المهاجرون الروس، لعل هذا الشغف هو ما دفعه منذ سنتين تقريبا إلي إعداد أول فيلم بالعربية عن المهاجرين الروس لصالح قناة روسيا اليوم، أما الأكثر إثارة هو ذلك الفيلم الذي أعده أيضا ويحكي قصة الخبراء الروس في مصر، يقول عن هذا الفيلم: "كانت فكرة مضادة للتيار، لكن ما كان يجهله الجانب المصري أن هذا الفيلم هو دفاع روسي عن الأصدقاء المصريين، استعنت في الفيلم بمذكرات العساكر الروس، وقد بلغ عددهم وقتها 15 ألف جندي روسي، شاركوا مصر في حرب الاستنزاف"، عموما عملية التبادل المصري الروسي تلك وقتها تلقي إعجاب وتقدير بولياكوف علي أساس اعتبارها دفعة قوية لاستمرار العلاقات، لكنها لم تكن تعجب بولياكوف فقط، يخبرني أنه تعرف في إحدي زياراته إلي مصر - التي يزورها تقريبا الآن مرتين في العام - إلي مراد غالب وكان سفيرا لمصر في الاتحاد السوفيتي أيام الستينيات وقت بناء السد العالي، والذي كان يعتبر إرسال الجاليات والطلبة المصريين إلي الاتحاد السوفيتي سدا آخر ضد الجهل. لهذا نعرف سر حميمية الجانب الخاص بكتب عن مصر الذي يحويه الجناح الروسي في المعرض بالنسبة لبولياكوف، ومن بين ما يضمه يشير إلي كتاب يعتز به جدا هو "مصر الروسية من 1001 قبل الميلاد إلي جمال عبد الناصر". اليوم، يشارك فلاديمير بولياكوف ضمن فعاليات ضيف الشرف، بكتاب صدر نهاية العام الماضي عن حياة الرسام الروسي الشهير إيفان بيليبين في مصر، من 1920 إلي 1925، يحكي فلاديمير أن بيليبين كان من المهاجرين الروس، وقد وصل إلي مصر عام 1920، وظل بها خمس سنوات، ويجمع الكتاب وثائق ورسائل بيليبين من مصر، خاصة رسائل الغرام بينه وبين طالبة روسية كان قد تزوجها في مصر، وفي عام 1991، أرسلت تلك الطالبة من أمريكا بصندوق كانت تحتفظ فيه برسائل بيليبين إلي أرشيف موسكو، وهناك استطاع فلاديمير الاطلاع عليها، وقاده محتواها - الذي لم يكن غراميا في مجمله علي ما يبدو - إلي اكتشاف ثلاث أيقونات لبيليبين في كنيسة صوفية يونانية، تحديدا المستشفي اليوناني بالعباسية، ولوحة خاصة ببيليبين في منطقة الجيزة قريبا من السفارة الروسية، كما يحتوي الكتاب علي وثائق هجرة الروس إلي مصر، ومذكرات عن أناس يعرفون بيليبين في القاهرة، وكان يقيم في شارع الأنتيكخانة أسفل كبري 6 أكتوبر قبل أن ينتقل في السنة الخامسة والأخيرة إلي الإسكندرية، التي يصفها فلاديمير في شكلها الماضي بأنها كانت تتيح إمكانية أكثر للعمل والانتشار، لأن نصفها كان أجانب، مما جعل الثقافتين الروسية والسكندرية قريبتين إلي حد ما. يقول بولياكوف عن نفسه إن لغته العربية ضعيفة جدا، لم تمكنه من أن يوثق علاقته بالأدب المصري: "لست خبيرا في الأدب، ولست مترجما إلي الروسية، لكني قرأت عمارة يعقوبيان بالروسية، وأول ما شعرت به أنه كتاب ليس مصريا، به تأثير غربي ما، وتأكد لي حدسي عندما قرأت عن المؤلف علاء الأسواني وعرفت أنه تلقي تعليمه في بلد أجنبي، إذن إنه رجل شرقي بتأثير ثقافي غربي، وهو ما انعكس علي كتاباته، اعتقد أن عمارة يعقوبيان في شكل كتابتها تختلف عن الأدب العربي التقليدي". "لم تصبح هناك ستائر" علي حد تعبير بولياكوف، عن تغير العصر وتأثير التكنولوجيا الرقمية، يؤكد بأنه في دقائق يمكنه الإفطار في موسكو وفي لحظة يكون في القاهرة للسحور.