فيه تشابه كبير بين الأوضاع في روسيا ومصر(!!) للوهلة الأولي تصورت أنني لم أحسن الإصغاء لمحدثي الروسي أو أن عاميته المصرية المشوبة بلكنة أجنبية قد خذلته, فلم يحسن التعبير عن فكرته. خاصة مع تزايد ضجيج وتداخل أصوات الجماعة التي احتلت الطاولة المجاورة لمجلسنا في أحد أركان الجناح الروسي بمعرض الكتاب. بصيغة الاستفهام والتعجب كررت علي محدثي, المستشرق الروسي, صاحب الكتب العشر عن مصر ونائب رئيس تحرير مجلة الارشيف الشرقي, فلاديمير بلياكوف, عبارته في محاولة للتأكد والاستيضاح.. فبالرغم من أن الثقافة الروسية مثلت رافدا مهما في تيار الثقافة المصرية منذ أربعينيات القرن الماضي, واحتلت موقعا متميزا فيها في نهاية خمسينياته, وعقد الستينيات بحكم التقارب السياسي والعلاقات الاقتصادية التي شهدتها العلاقة بين مصر وروسيا في ذلك الحين, فإن المتغيرات السياسية التي تعرضت لها كل من البلدين خلال الربع قرن الماضي, وتفكك الاتحاد السوفيتي في تسعينياته قد أديا لحالة أقرب للقطيعة بين الثقافتين تتجلي أهم مظاهرها في تراجع حركة الترجمة عن اللغة الروسية, وعدم متابعة المستجدات في الساحة الثقافية الروسية, لتنحصر صورة الثقافة الروسية في أذهان معظمنا في شذرات من الماضي لاتزال تحملها الذاكرة لأسماء ومسميات من قبيل معطف جوجول وبستان كزز تشيكوف وجريمة وعقاب دستويفسكي وحرب وسلام تلستوي وشهرزاد رمسي كورساكوف وطقوس ربيع سترافنسكي, أو صورة باهته لمكتبة الشرق بميدان طلعت حرب, حيث كان يمكن شراء أهم الكتب والموسوعات المترجمة للعربية بقروش زهيدة.. وربما كانت هذه الصور الذهنية, وتوقيت إجرائي الحوار مع المستشرق الروسي بلياكوف في أول أيام معرض الكتاب, وقبل أن تتضح الصورة كاملة خلال أيام المعرض, كانا سبب دهشتي وتشككي في أنني فهمت عبارة بلياكوف وتأكيده تشابه الحالة الثقافية في مصر وروسيا الآن. قال المشكلات التي تواجهها روسيا مشابهة لما عندكم.. لدينا المد الديني.. ثقافة السندوتش وجيل البيبسي كولا... مشكلة تحديد الهوية... الشيوفونية.. الهوية اليورو آسيوية... مشكلات التعليم, وسوق العمل والسكن... توقف لالتقاط أنفاسه ثم استطرد هناك تعدد للرؤي وحالة صراع بين الأجيال, عندما أقمنا لجنة تحضرية للجناح الروسي في المعرض واجهنا صعوبات في تحديد الكتب... ربما تكون رؤيتي تقليدية, ولكن هناك مستويات أفضل من الكتب المعروضة. سألته عما يزعجه في الكتب التي ينتقدها.. هل الأسلوب أم اللغة أم القيمة, فقال كل الحاجات سودة... عشان إيه؟! عندنا مشكلات التحول من النظام الاشتراكي لكن دي مشكلات أي دولة جديدة... ( وهنا تجدر الإشارة إلي أن الكاتب الروسي رومان سنشن قد أشار, فيما بعد في اللقاء الذي عقد في اتيليه القاهرة قبل نهاية المعرض إلي أن الوفد الروسي غير متجانس, وأنهم في حالة عراك مستمر من الصباح للمساء)(!!). وعن موقع كلاسيكيات الأدب الروسي في زمن جيل البيبسي كولا علي حد تعبيره كان السؤال, فقال لها جمهور ولكن ليس بنفس الكم الذي كان عليه في الماضي وعما إذا كانت أعمال الكتاب الروس الذين هاجروا للغرب لاتزال ممنوعة من التداول في روسيا, وإذا ما كانت هناك كتب أخري محظور تداولها كان السؤال, فقال الكتب موجودة, وعندنا قانون لمنع الكتب الفاشية والعنصرية, والتي تهاجم القوميات, ولكن لم أسمع عن كتاب ممنوع, وهناك تزايد في أعداد الكتب الدينية الارثوذكسية والإسلامية, وهي نتيجة طبيعية, فعندما تتعرض الأرض لزلزال يتجه الناس للسماء... وعن تأثير تعدد القوميات والحالة الشيفونية, وإذا ما كانت تمثل إثراء للثقافة أم تختزلها كان السؤال, فقال علي الساحة الروسية لا توجد مشكلات لكن هناك ظواهر يتوقف المرء أمامها, ففي أوكرانيا وروسياالبيضاء أغلبية السكان يتكلمون الروسية, وجوجول كاتب عن أوكرانيا لكن بالروسية... وفي شبه جزيرة القرن أغلبية السكان يتكلمون الروسية.. إن تفكيك الاتحاد السوفيتي ضد حركة التاريخ, فكل الدول تتجه للاتحاد الآن, وأنا علي ثقة أن المستقبل سيشهد ظهور اتحاد فيدرالي بين روسيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا وكازخستان. وعن تأثير تفكك الاتحاد السوفيتي علي دعم الحكومة للثقافة كان سؤالي, فأجاب لم يعد هناك سوي القطاع الخاص الذي يحركه مبدأ البحث عن الربحية والمثقفون يحاولون التصدي لهذا, خاصة أن تمويل الثقافة في روسيا بات ضعيفا, نحن نحاول أن ندفع الحكومة للاهتمام بشكل أكبر بالثقافة والنشر لمصلحة الجيل المقبل... من حاضر متشابه ومتشابك قفزت معه للوراء لنرصد تاريخ العلاقات المصرية الروسية, فقال عشت في مصر15 عاما خلالها رصدت معالم العلاقة بين البلدين, والتي اتخذت في بداياتها طابع العلاقات الإنسانية, وتمثلت منذ القرن الحادي عشر في آثار رحلات الحج والايقونات الروسية في وادي النطرون وسانت كاترين, الذي ظل تحت رعاية رسمية لروسيا منذ عهد بطرس الاول في سنة1689 حتي ثورة أكتوبر1917 والجدير بالذكر أن عدد الحجاج الروسي لم يكن كبيرا نظرا لبعد المسافة لكنه تضاعف في سنة1857 عندما تم إنشاء أول خط بحري بين روسيا والإسكندرية, الأمر الذي سهل زيارة مصر والاهتمام بالحضارة المصرية القديمة, فظهر العالم الروسي فلاديمير جولينشر مؤسس قسم المصريات في جامعة فؤاد الأول الذي جمع الكتابات المدونة علي الجدران في وادي الحمامات وترجمها للروسية تحت عنوان حكايات من ورق البردي, كذلك فقد عاش الفنان ايفان بيلبين في مصر في الفترة من عام1920 إلي1925 وقد أطلق علي نفسه اسم يوحنا الانتكخانة, وكتب انطباعاته عن أحياء مصر والإسكندرية ورسم المناظر الطبيعية المصرية والبورتريهات والايقونات التي لاتزال ثلاثة منها موجودة بكنيسة بانيتليمون الارثودكسية. وقد رصدت كاتبة روسية الأعمال التي تناولت مصر في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين, فوجدت أن60 كاتبا كتبوا عن مصر, وأن70 رواية تحدثت عنها. (تجدر الاشارة إلي أن الروس في تلك الفترة اهتموا بمنطقة حلوان واقاموا فيها مستشفي وشاركوا في بناء فندق الحياة أقدم فنادق حلوان). ويشير بلياكوف إلي تراجع الاهتمام بمصر عقب ثورة1917 في روسيا نتيجة للأحوال السياسية في روسيا والاهتمام بالشأن الداخلي, وخوف الحكومات المصرية في عهد الملك فؤاد ونجله فاروق من اختراق الشيوعية لمصر, فلم تنشأ علاقات دبلوماسية رسمية بين البلدين حتي عام1943. رغم ذلك, فقد ظلت العلاقات الثقافية, وإن كانت محدودة تمثل جسرا بين البلدين من خلال معهد الاستشراق والجالية اليهودية الروسية التي قدرها أول تعداد مصري في عام1897 ب3 آلاف, لتصل بعد1917 إلي1500 شخص ويشير بلياكوف إلي أن الروس المقيمين في مصر كانوا من الاطباء والموسيقيين والاساتذة والرسامين, ومع نهاية خمسينيات القرن العشرين, وفي حقبة الستينيات تتدعم أواصر التعاون بين مصر والاتحاد السوفيتي كرد فعل للتعاون السياسي ثم تبدأ مرحلة شبه الانقطاع الحالية التي أحاول مع غيري أن نتجاوزها من خلال التفاعل الثقافي, وكتبي عن مصر وأحدثها رحلة علي ضفاف النيل المقدسة. وعن توقعاته لطبيعة العمل الثقافي في السنوات المقبلة في ظل التحولات التي رصدها والتكنولوجيا الجديدة, وما تفتحه من آفاق وحالة عدم الرضي الذي ابداها تجاه عدد من مظاهرها خلال حوارنا كان سؤالي, فأجاب الثقافة جزء لا يتجزأ من الإنسان, وبالتالي ستظل طالما بقي الإنسان علي الأرض, وبالطبع هناك احتمال أن تتغير, ولكن لا استطيع التنبؤ بالاتجاه أو بحجم التغيير. لكن ما يقلقني حقا أن بعض الثقافات عدوانية تحاول أن تستلب الثقافات التقليدية الأخري, الأمر الذي يدفع أبناء الثقافات الأخيرة لمزيد من التعصب وردود الفعل العنيفة, المشكلة الثانية التي تؤرقني هي تراجع اهتمام الأجيال الجديدة بنوعية العمل الثقافي نتيجة للضغوط المعيشية, وآليات العمل الحر ليظل السؤال الملح من سيحل مكاني اكاديميا بعد عشر سنوات, وقد بلغت الآن الستين من عمري والإجابة مع الأسف لا أعرف... ربما لا أحد.. وإذا كانت إجابة بلياكوف الأخيرة تعكس صيغة احتمالية, فإن مراجعة سياق الحوار وما طرحه بلياكوف, وما أضفناه بين الأقواس, وما جاء علي لسان عدد من ضيوف معرض الكتاب من الجانب الروسي وأقرانهم من المثقفين المصريين تمنحنا اجابات شبه يقينية عن أسباب حالة عدم الرضي التي عبر عنها كلا الجانبين في الاحاديث الجانبية, وبعض الدوريات وأسباب إهدار فرصة الاحتكاك الحقيقي بين أجيال مثقفي البلدين, لتظل مصر في أذهانهم صور من تاريخ رسمه الرحالة الروس, ولنظل نحن نعيشه في معطف جوجول وبين أسوار بساتان كرز تشيكوف...