في مقدمة كتاب حصاد السنين للدكتور زكي نجيب محمود، إشارة جميلة، وفكرة بديعة.. يقول فيها: يقال عن البجعة إنها إذا ما دنت من ختام حياتها، سمعت لها أنات منغومة تطرب آذان البشر.. ولا يمنع أن تكون تلك الأنات صادرة في الغالب عن ألم يكويها.. ومن هذه الترنيمة الجميلة قبيل وفاتها، جاء التشبيه عند أدباء الغرب، إذ يصفون عملاً جيداً أبدعه صاحبه بأنه تغريدة البجعة... ولعل هذه القصة تفسر لنا سر تسمية السيمفونية المشهورة بحيرة البجع، حيث الأنات المنغومة، وحيث الشجن النبيل، وحيث الإبداع من خلال الألم في نهاية المشوار.. وهو ما نطلق عليه في أدبنا العربي تعبير مسك الختام.. حيث الأعمال دائما بخواتيمها.. والحساب عادة يكون في النهاية. لا أدري لماذا تذكرت هذه القصة وغيرها، وأنا أتابع وأتامل طريقتنا في تقييم الأشياء، وفي الوصول إلي استنتاجات بشأنها.. قبل أن تحكي لشخص ما الحكاية، ومن أول جملة يبادرك بأنه توصل إلي ما تريد قوله، وأنه لماح يفهمها وهي طايرة، وأنه لبيب وبالتالي يفهم بالإشارة.. نحن لا نعطي فرصة لأنفسنا للفهم.. ولا نعطي فرصة للآخرين لكي يكملوا كلامهم، أو يتموا أعمالهم، أو يختموا واجبهم، ونبدأ في تقييمهم علي الفور. كثير من قصص النجاح والبطولة في حياتنا لا تبدأ إلا في نهاية المشوار، شبيهة بتغاريد البجع.. سعد زغلول قاد ثورة 1919 وهو في الثانية والستين من عمره.. بمقاييس ذلك الزمن، كان هذا العمر يمثل قمة الشيخوخة، حيث كان متوسط أعمار البشر في مصر يتراوح بين الأربعين والخمسين.. قاد زغلول الثورة بروح الشباب، وأحدث انقلاباً في روح مصر وفي توجهها وهو شيخ كبير. الدكتور مصطفي السيد، العالم المصري الشهير، والحاصل علي أعلي الأوسمة الأمريكية، بدأ يلفت إليه أنظار العالم في الخمس سنوات الأخيرة، وهو في السبعين من عمره، بعد أن بدأ في ابتكار علاج جديد للسرطان.. وعلي الرغم من مشواره العلمي العظيم، وعلي الرغم من تميزه منذ بداياته، إلا أن تغريدة البجعة وأحلي ما قدمه كان وهو في السبعين من عمره. عزيز أباظة، مثل آخر، ولكنه في مجال الأدب والشعر.. لم يعرف عنه أنه أديب أو شاعر إلا في مراحل متأخرة من حياته، وتحديدا بعد وفاة زوجته.. التي رثاها بديوان شعري كامل، وكان ذلك بداية لمسرحياته الشعرية الرائعة. مثال آخر في الأدب، شبيه بعزيز أباظة، هو النابغة الذبياني، الشاعر الجاهلي، صاحب إحدي المعلقات السبع.. وقد سمي بالنابغة، وفقا لكثير من الروايات لأنه كتب الشعر علي كبر، وهو شيخ كبير.. وسجل اسمه بين الخالدين. وفي مجال الدين، لم يعرف الناس الشيخ الشعراوي، ولم يستطع أن ينفذ إلي قلوبهم وأفئدتهم، ويصبح أسطورة قل أن تتكرر، إلا وهو علي مشارف السبعين من عمره.. أيها المتعجلون في الحكم علي الناس، وعلي الأشياء، اتركوا الفرصة للآخرين لكي يكملوا أعمالهم، وأن يتموا ما بدأوه.. فتغريدة البجعة لا تأتي إلا في خريف العمر.