لم يكن قد مضي علي رحيل الرئيس جمال عبد الناصر حوالي أربعين يوماً عندما فوجئ الناس في مصر وخارجها. بمقال صدمة عنوانه عبد الناصر ليس أسطورة كتبه الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام، ولم تكن علاقته بعبد الناصر خافية علي أحد، وهي تلك العلاقة التي وصفها هيكل بأنها صداقة الحظ والشرف. كان علي رأس الغاضبين من مقال هيكل رجال عبد الناصر الذين كانوا علي قمة الحكم والسلطة وقتها، من لبيب شقير رئيس مجلس الأمة إلي علي صبري والفريق أول محمد فوزي وزير الحربية، ودارت في الكواليس معركة شرسة للقضاء علي هيكل، اللافت للنظر أن الذي دافع عنه كان الرئيس السادات نفسه، وفي كتابه من أوراق السادات الذي كان حصيلة مئات الساعات من الحوارات بين السادات والأستاذ أنيس منصور تفاصيل مثيرة وجديدة عن معركة مقال عبد الناصر ليس أسطورة والذي كان أحد ملامح الصراع بين السادات وورثة عبد الناصر أيامها، والآن إلي سطور ما كتبه السادات بنفسه حيث يقول: صدر مقال في ذكري الأربعين لجمال عبد الناصر في جريدة الأهرام بعنوان جمال عبد الناصر ليس أسطورة وقد اعتبره لبيب شقير - ممثلاً لمركز القوي الثاني - عضو اللجنة التنفيذية العليا نوعاً من الخيانة العظمي، وقد ترافع لبيب شقير بمنتهي الفصاحة والبلاغة، وكان الغرض واضحاً أمامي أن مركز القوي الثاني: شعراوي جمعة وسامي شرف ، وعلي صبري يريدون التخلص من مركز القوة الأول محمد حسنين هيكل وأن هذه هي الفرصة المواتية وقد أجمعوا آراءهم علي ذلك، فإذا ما اتخذ قرار في اللجنة المركزية تكون الأغلبية له، وبذلك ينتهي مركز القوة الأول الذي لم يستطيعوا التغلب عليه في حياة عبد الناصر. هذا هو الهدف الأول، هناك هدف أهم من ذلك، إنهم يريدون أن ينتهزوا هذه الفرصة ليؤكدوا لي أنهم مصدر السلطة في صدور القرارات لأن لهم الأغلبية، وعلي ذلك فإذا أردت أن أتخذ قراراً فلابد أن أرجع إليهم، أي لا رأي ولا قرار، الرأي والقرار لهم وحدهم، أما أنا أي رئيس الدولة - فلست إلا صوتاً ضمن أصوات أخري.. وانتهزتها فرصة لكي أؤكد أسلوبي في الحكم أو في التفاهم مع الآخرين: المواجهة أي لابد أن يتواجه هؤلاء جميعاً مع ذلك الصحفي الذي أدانوه ولابد أن يدافع عن نفسه، أي لا حكم بلا محاكم، ولا قرار بلا مواجهة، والإنسان بريء إلي أن تثبت إدانته. وفتحت باب المناقشة لكي أعرف الحاضرين أكثر، وأذكر أني قرأت أن الفيلسوف سقراط هو الذي كان يقول لتلاميذه عندما وجد واحداً لا يتكلم فقال: تكلم حتي أراك! فطلبت إليهم أن يتكلموا لكي أراهم أوضح. ومضي السادات يقول: لاحظت أن هناك ترتيباً أو اتفاقاً بين الجميع، ولكن لا أعرف مضمون هذا الاتفاق أو تفاصيله، وأجمع الحاضرون علي الهجوم علي صاحب المقال: المعتدلون هاجموه وأدانوه وطلبوا ألا تذاع أسرار هذه الجلسة، والمتطرفون أيضاً وهذا أمر طبيعي، إلا الدكتور محمود فوزي رئيس الوزراء فقد كان معتدلاًَ وكان الغرض أن يتخلص مركز القوة رقم واحد من مركز القوة رقم 2 بعد أن استمر في السلطة وفي الحكم الفعلي طويلاًَ وانتصر عليهم في أكثر من معركة أيام عبد الناصر بل إنهم أعدوا محامياًَ شاباً ليكون رئيس تحرير الأهرام بدلاً منه. وتكلمت أنا فقلت: أحب أن أقول للجنة العليا إنني لا أحكم علي أحد قبل مواجهته، أي لابد أن نواجهه لكي يتمكن من الدفاع عن نفسه، ورفعت الجلسة وأدي ذلك إلي ارتباك مركز القوة هذا، فلم يكن في الحساب ألا يتخذ قرار أو علي الأصح ألا يفرضوا قرارهم علي!! وفي الجلسة التالية فوجئ أعضاء اللجنة العليا، وأنا أضغط علي زر الجرس وأطلب رئيس تحرير الأهرام، فقد أبلغ بضرورة الحضور إلي اللجنة، ولذلك كان موجوداً في مبني الاتحاد الاشتراكي وادخلوه وجلس علي الطرف الآخر من الترابيزة، كنت علي رأسها والأعضاء علي الجانبين، فجلس في مواجهتي وتكلمت وقلت: يا دكتور لبيب شقير أعد ما سبق أن قلته في الجلسة الماضية عن المقال الذي نشر في الأهرام أما الذي حدث فهو أن لبيب شقير لم يعرف ماذا يقول، راحت الفصاحة والبيان، وقد حاول أول الأمر أن يوجه أسئلته إلي كاتب المقال، فرفضت هذه الصورة وقلت: ليس المطلوب هو أن تناقشه، وإنما أن تعيد علي مسامعه ما قلته للجنة، أما الأسئلة فسوف تتولي اللجنة العليا توجيهها إليه، وقال كلاماً مفككاً ولم ترد فيه كلمة الخيانة!! وطلبت إلي كاتب المقال أن يدافع عن نفسه، فأخرج المقال من جيبه وراح يناقش فقراته طويلاً، وانتهي بأن قال: إنه كان أقرب واحد إلي جمال عبد الناصر وطلبت إليه أن يخرج بعد أن دافع عن نفسه، ونزل إلي مكتب سامي شرف في الدور الأسفل ليسمع بقية المناقشة وقد كانت الجلسة مسجلة، ولم أفهم كيف سمح له سامي شرف أن يتابع بقية المناقشة. وقلت لأعضاء اللجنة العليا: لقد سمعنا رأي رئيس التحرير ورأي لبيب شقير، أحب أن أسمع آراءكم، فلم يعلق أحد بشيء!! وكان واضحاً أن مركز القوة الأول خسر معركته مع مركز القوة الثاني، وقد علمت بعد ذلك كيف عنف ضياء داود صديقه لبيب شقير، وقبل أن أنهي المناقشة كررت عليهم ما سبق أن قلته: أسلوبي هو المواجهة، المصارحة، لا اتهامات بلا أدلة، لا إدانة بلا محاكمة وكانوا في غاية الغيظ، لقد تكرر فشلهم مرة أخري. شكر للصديق الغالي إسماعيل منتصر رئيس مجلس إدارة دار المعارف علي نشره هذا الكتاب المثير للعقل والمدهش تاريخياً.