اتصلت هاتفيا بشركة التاكسي. انتظرت خلف النافذة دقائق بدت لي طويلة. عاصفة ثلجية تركت بصمتها علي الطريق والأشجار. سيارة الجيران يغطيها الثلج حتي منتصفها. حتي الهواء تجمد فوق الأسطح. المعطف ثقيل والفولار يحيط بالرقبة يمنع تسرب البرد للصدر، والجو ساخن في البيت. توقفت السيارة أمام الباب فأسرعت خارجة قبل أن يدق السائق الجرس. نسيت أن أرتدي القبعة الصوفية والقفازات السوداء المصنوعة من جلد مبطن بالصوف. نظر إلي وجهي في المرآة وأنا أخبره عن وجهتي، محطة الباص. تحركت السيارة ببطء والسائق ينظر إلي في المرآة. سألني إن كنت عربية. قلت نعم وأنت؟ قال لبناني. ثم قال اصطحبت رجلا من هذا البيت منذ أيام. كان الزبون عربيا، زوجك؟ قلت، إيه! صدفة غريبة. وإلي أين اصطحبته؟ قال إلي محطة القطار. قلت آه، كان ذاهبا إلي تورونتو. أنا الآن ذاهبة إليه. ضحك وضحكت. سألني لماذا يقيم زوجي في مدينة أخري وعندما أخبرته أنها ظروف العمل، قال هذا حال كندا. قبل مغادرة التاكسي، أوصاني سلاماً لل"إستاذ". التاكسي تأخر قليلاً. اتصلت بالشركة مرة ثانية وقبل أن تجيب عاملة السنترال، لمحت السيارة تدخل شارعنا فضغطت علي زر الاقفال بسرعة وخرجت. كنت ذاهبة إلي الجامعة، سيارتي بها عطل. السائق نظر إلي وجهي في المرآة وسألني إن كنت الدكتورة مي. أجبته باستغراب وأنا أتفرس في ملامح وجهه من الجانب. التفت قليلا باتجاهي وقال أنا فلان. تذكرت الاسم بصعوبة. قال إني منذ عامين ركبت معه التاكسي. وإنه طلب مني مساعدته في الالتحاق ببرنامج الماجستير في قسم الإعلام. تذكرته علي الفور. بسعادة سألته عن حال الدراسة وبثقة أجابني أنه متفائل خيرا. قال إن لديه ولدا وبنتا وإن زوجته لا تعمل. وقال الحمد لله علي كل حال. عندما وصلنا للجامعة رفض تقاضي أجره رغم إلحاحي عليه. وودعني بابتسامة وهزة رأس. يوم التدريس بدأ بداية طيبة. لو تأخر التاكسي عشر دقائق، سأتصل بشركة أخري. أنتظر في مدخل مبني كلية الآداب. كلما انفتح الباب، هبت رياح مثلجة، والباب ينفتح في الدقيقة الواحدة أربع مرات. الساعة العاشرة مساء، واليوم يوم عاصفة، لن تأتي سيارة التاكسي في موعدها. الطلب يزيد والطرق تزدحم والانتظار يطول. من حقي أن أوقف أية سيارة في الطريق وأستقلها. لو كان السائق ينتظر شخصا بعينه يسألني أولا عن اسمي ومن حقه أن يرفض توصيلي لو لم أكن الشخص المعني. ذات مرة، كذبت. سألني السائق إن كان اسمي ميس ماري، قلت نعم. لم أكن أطيق الانتظار في درجة حرارة 15 تحت الصفر. البيت يبعد نحو عشرين دقيقة سيراً علي الأقدام وأقل من أربع دقائق بالسيارة. لا يحب السائقون تلك الرحلات القصيرة. أضيف للأجر دولارين لتعويض السائق عن المشوار. عاد وقال إن سائق التاكسي -صديقنا المشترك- يسلم علي. السائق سأل أولا عن الأحوال في تورونتو. ثم سأل عن الأحوال في مصر. أجابه أن الأمور سيئة وأنه لا يفكر في العودة الآن. لماذا وكيف ومتي ساءت الأمور؟ قال باقتضاب إنه الفساد وأدار وجهه صوب الطريق. السائق أكمل الثرثرة. لم يكن هناك وجود لتلك الكلمة فيما مضي. يعرف لأنه كان يقيم في مصر في الستينيات، قبل الهجرة. درس التجارة في الجامعة وعاد إلي لبنان وعندما قامت الحرب سافر ولم يعد. قال الله يرحم زمن عبد الناصر عندما كانت مصر بلد كل العرب. السائق طالب الماجستير قدم مشروع بحث جيدا. سأناقشه بعد أيام في لجنة الدراسات العليا. إحساس خاص بالفخر ينتابني حين أساعد طالبا عربيا علي النجاح واكتساب ثقة في نفسه تسمح له بالتقدم. لم يحصل علي عمل مناسب بعد الهجرة، عمل سائقا بالنيابة علي سيارة صديق ثم عينته شركة التاكسي وفرح بالعمل. لا بأس طالما يساعده العمل علي فتح بيت وإعالة أسرة. الغالبية العظمي من سائقي التاكسي في المدينة من أصل لبناني. مرونة يبررها تاريخ طويل من التأقلم مع الواقع وتتناسب مع حب السيارات والحركة. السائقون من جنسيات أخري يفضلون الصمت. وأحيانا يخطئون ويحملون الزبون نتيجة الخطأ. التفاهم بين العرب ومعهم يفتح طريقا للتفاوض، بصورة مضمرة وشبه أكيدة. في صمت، قاد السيارة من بيتي بالقرب من الجامعة لبيت في منطقة روكليف. المشوار يستغرق عادة عشر دقائق. هذه المرة، في ليل الشتاء بسمائه القرمزية وهوائه الراسخ، درنا في الشوارع نصف ساعة. كأن البيت رحل من مكانه، أو اختفي وراء التلال. تقاضي السائق أجره مضاعفا، رغم حنقي. والسبب البونديرة والقانون ورأفتي به لأنه سائق في شركة لا يمتلك سيارته ولأنه مهاجر جديد لا يجيد الإنجليزية. لم يعتذر، لكنه ارتبك عندما سألته عن اسمه. ظننت أن التاكسي في العاصمة مزود بجي بي أس مسجلة عليه طرق ومسالك المدينة بالصوت والصورة. لكن ظني لم يكن في محله. وسؤالي عن اسمه لم يكن مهددا له علي الاطلاق، فالاسم مكتوب ومعلق في غلاف من البلاستيك المتسخ قريبا من مرآة السيارة الداخلية. لم تكن بي حاجة للسؤال كنت فقط أريد التعبير عن استيائي من سوء تصرفه وجهله. في كندا، يظل السائق صديقي مهما حدث، خاصة في الشتاء، حين تتعذر قيادة السيارة الخاصة أو يصعب تحريكها بسبب الثلج. في مصر، تبدو تلك الصداقة مستحيلة، بسبب حال السيارة الأجرة وحال السائق وحال الطريق وحال المرور فضلا عن انعدام الثقة في اصلاح العلاقة بين كل هؤلاء وبين الزبائن ممن لديهم نزوع خطير للرفاهية. في النهاية ليست المقارنة في مصلحة أحد، لكنها مجرد طق حنك، دردشة تاكسيات.