خلف الزجاج كانت تجلس وأمامها جهازا معمليا تنظر داخله أحيانا، كان ترتيبها فى الجلوس الثالثة بالنسبة إلى موقعى، وكنت أقف مقابل زميلتها التى تتعامل مع مجموعة من الأوراق بتركيز يخرجها من دائرة توقعاتى، أما الجالسة فى المنتصف فقد بدت لى أنها الأقرب لمساعدتى، كانت تجيب على أسئلة رجلين يسبقانني فى ترتيب الوقوف وتستلم منهما أوراقا وتستعد لتسليمهما أكياس الدم، اتخذت وضع الاستعداد منتظرة أن تنتهى منهما وتتفرغ لى، أشارت لى الثالثة برأسها وبعينيها ثم بيدها إشارة معناها أنها مستعدة لتلبية طلبى، فادخلت الطلب الطبي عبر الزجاج وعبر الايدى ومدت هى يدها تتسلمه وسألتنى عن الفصيلة، فهمت السؤال بقراءة حركة شفتيها. وأجبت بصوت مرتفع (أوو بوزيتيف)، أمسكت الطلب بيدها اليسرى ومدت لى اليمنى فناولتها الزجاجة الرفيعة المحتوية على عينة الدم، سألتنى (الدم لمين؟) قلت لها اسم المريض، فسألتنى (تقربى له إيه؟) فأجبت (مش قريبته)، أعادت لى الزجاجة الرفيعة فتسلمتها عبر الايدى والاوراق والزجاج ، قالت (اسمه مش مكتوب ع العينة مش هأقدر أديكى الدم) لم أسمع الجملة جيدا ولم تفلح إمكانياتى فى قراءة حركة الشفاه فى تعويضى، أو ربما لم أكن أرغب فى فهم الجملة أصلا فأنكرتها. مش فاهمة حضرتك.. قلت. رفعت صوتها ووقفت فى مكانها وقالت (فين اسم المريض.. حضرتك شفتي العينة دى وهى بتتسحب من المريض؟ يعنى العينة دى اتسحبت قدام عنيكى؟) أجبت (لأ) وأكملت بعد ان ابتعد الواقفون بجوارى ربما لأنهم أنهوا حاجتهم، وتوجهت إليّ أنظار الطبيبات الثلاثة الجالسات خلف الزجاج (أنا وصلت المستشفى لقيتهم مجهزين العينة والطلب وأخدتهم) قالت بحسم (يبقى مش هأقدر أديكى الدم، حضرتك هاتي عينة جديدة عليها اسم المريض وطلب عليه اسم المريض) فى اقل من ثانيه اكتمل فى رأسى مشهد الطريق إلى المستشفى ثم منها إلى بنك الدم، طريق تقف فيه السيارات متراصة فى صفوف لا تتحرك. قلت بسرعة (لا إنتى بتعقدى لى الحكاية كده.. مافيش وقت.. حرام) قبل أن أكمل الجملة قالت زميلتها الجالسة بجوارها بهدوء (من غير انفعال – حضرتك- الحكاية بسيطة وقعى على إقرار إنك هتاخدى الدم على مسئوليتك) قلت بدون تفكير (أوكى.. أوقع) سألتنى بنفس الهدوء (حضرتك عارفة لو العينه غلط ممكن يحصل إيه؟) (عارفة) ناولتنى الأنبوبه المحتوية على العينة وقالت (اكتبى اسمه عليها). كتبت الاسم وأعدتها إليها، طلبت منى العودة بعد ساعة هى الفترة التى تستغرقها عملية التوافق. أعرف بخبرتى الطويلة إنه لو جاء الدم غير مطابق لدم المريض، سيقتله خلال دقائق. لذلك ظللت طوال الساعه أفكر فى مخرج، اتصلت تليفونيا بالمريض وتأكدت منه أن الممرضة التى سحبت العينة، لم تتحرك بها وتركتها بعد أن سحبتها مباشرة فوق ملف المريض الموضوع على رأس سريره، ظللت أطلب منه أن يكرر المعلومة حتى تهدج صوته من الإرهاق. عندما استلمت كيس الدم جاءتنى فكرة تسلطية مؤداها ماذا لو كان بنك الدم هو الذى أخطأ فى إجراء التوافق وسلمنى كيسا يخص مريضا آخر، ساعتها لن يمكننى إثبات أنهم مخطئون وسأتحمل أنا المسئولية. بعد تفكير عميق - ساعد عليه وقوف السيارة الاجرة التى تقلني إلى المستشفى فى صف السيارات، وانشغال سائقها بسماع برنامج رياضى ساخن – توصلت إلى حل وهو أن أعيد تجربة التوافق فى معمل المستشفى. سألنى صديقى الطبيب الذى طلبت منه أن يساعدنى على إجراء الإعادة، عما اذا كنت واثقة من أن العينة هى عينة المريض فلماذا أرغب فى إعادة التوافق، وإذا كان يوجد احتمال خطأ فى بنك الدم فهو احتمال موجود طوال الوقت بنفس النسبة فلماذا لا أفكر كل مرة أن أعيد إجراء التوافق. أجبته بدون تفكير إننى وقعت على إقرار بتحمل المسئولية(!!) فاجأتنى إجابتى قبل أن تفاجئ الطبيب الصديق. أكملت المكالمة والطريق صامتة من هول المفاجأة