في أيام قليلة نفدت الطبعة الأولي من كتاب "من أوراق السادات" للكاتب الكبير الأستاذ "أنيس منصور" الذي صدر عن دار المعارف. هذا الكتاب الضخم ليس مذكرات السادات إنما فيه الكثير من المذكرات، وليس ذكريات ولكن فيه مئات الذكريات والحكايات. والكتاب البديع الذي استولي تمامًا علي عقلي وتفرغت له تمامًا، كتاب ساحر يأخذك معه في رحلة طويلة ممتعة من الحكايات والأسرار والألغاز بطلها الإنسان المصري "محمد أنور السادات": طفلاً، وشابًا.. وضابطًا، ومعتقلاً، وكاتبًا، ومسئولاً، ورئيسًا لمجلس الأمة، ونائبًا لرئيس الجمهورية، ورئيسًا، إنه يصحبك معك ببساطة لا حدود لها وكأنك تشاهد دراما هائلة لا يتصورها عقل أنبغ مؤلف درامي، قصة مواطن فقير أحب مصر حتي أصبح رئيسًا لها. والكتاب حصيلة مئات الساعات التي قام الأستاذ "أنيس منصور" بتسجيلها للرئيس السادات، وفي مقدمة الكتاب يقول أنيس موضحًا: "لا أعرف كم جلسة مع الرئيس السادات لكي يملي هذه المذكرات، في إحدي المرات استغرقت الجلسة 18 ساعة لدرجة أن السيدة جيهان السادات كانت تجيء وتنظر إلينا وتنتظر ولم يكن الرئيس يلتفت، إنما أرادت أن تعرف ما الذي استغرقنا هكذا، فالرئيس السادات عندما يشرع في قضية عامة فإنه لا يلتفت إلي أي شيء أو أي أحد، وفي تلك الليلة استخدم الرئيس السادات كل أشرطة الأغاني التي عنده، الأشرطة المسجلة عليها الموسيقي والأغاني وطلب المزيد، فراح رجال الرياسة يجوبون شوارع الكورنيش في الإسكندرية يبحثون عن أشرطة جديدة "وكنت أعيد صياغة ما أملاه الرئيس وأتحقق من التواريخ". ويضيف أنيس منصور قائلاً: وكنت أحتشد لأكتب دراسة طويلة عن فكرة المذكرات وكيف تناقشنا فيها طويلاً، وكنت قد عرضت علي الرئيس أن أجعلها ضمن كتاب عن حياته والسياسة، ولكنه شاء أن تكون هدية منه لمجلة أكتوبر الوليدة وأن تنفرد بها دون كل المجلات والصحف، كما أن الرئيس السادات طلب مني ألا أنشرها في أي صحف أخري حتي لو أرادت أن تشتريها، ولكن إذا سرقتها أي نشرتها بعدنا دون إذن منا فليكن!! وقد طلبت بعض دور النشر أن تحصل علي هذه المذكرات أولاً بأول فاعتذرت". وعلي مدي شهور ابتداء من أكتوبر سنة 1976 كان السادات يروي بعضًا من ذكرياته أو مذكراته أو أوراقه علي صفحات مجلة أكتوبر التي كان يعتبرها "ابنته" ويخصها - من خلال أنيس منصور - بعشرات الأخبار المهمة! ستة وعشرون فصلاً هي بعض أوراق السادات عن مشوار طويل في عالم الطفولة والمعاناة والاعتقال ثم سنوات الثورة وانتصاراتها وانكساراتها، من حرب 1956 وهزيمة يونيو 67 حتي انتصار أكتوبر 1973 أشمل وأكمل انتصار عسكري في تاريخ مصر الحديث، إنه مجد وفخر العسكرية المصرية، كما يتطرق السادات لمحطات مذهلة في تاريخ مصر عامة وفي تاريخه هو خاصة، أو حسب تعبيره "إنني عندما استعرض خط حياتي طالعًا نازلاً، معتدلاً ملتويًا، ظاهرًا خفيًا فإنني أهز رأسي مستمتعًا بما حدث، فلا شيء يبعث علي الأسف وإنما كل شيء يمشي نحو قدري، وقدري هو إرادة الله، إن الإنسان يدبر ولكن قضاء الله وقدره قد أعد لنا شيئًا آخر!! من الذي يستطيع أن يتصور أن هذا الشاب الذي كان مفلسًا تمامًا سوف يكون رئيسًا لجمهورية مصر بعد عشرين عامًا". ثم يروي هذه القصة ذات الدلالة وتعود وقائعها إلي أواخر سنة 1949 وكان قد تزوج من السيدة "جيهان السادات" ولم يكن في جيبه سوي مائة وعشرين قرشًا، وجرب أن يشتغل في "روزاليوسف" ثم الأهرام ثم "دار الهلال" لكن دون فائدة، وحسب قوله "إذن لم يبق أمامي إلا أني أحاول دخول الجيش، ذهبت إلي د. يوسف رشاد الذي كان طبيبًا للملك فاروق وعرضت عليه رغبتي وأملي في أن أعود إلي مكاني، واتصل د. يوسف رشاد بحيدر باشا، وتحدد يوم 10 يناير 1950 لمقابلة محمد حيدر باشا وزير الحربية وهو مشهور بأنه رجل عنيف وأنه لا يبتسم أبدًا ورآني وسألني عن اسمي وقال لي: أنت ولد مجرم.. ولابد أن تاريخك أسود!! وكنت أقول له: يا معالي الباشا اسمح لي أشرح لمعاليك، ويقول: اسكت ولا كلمة!! وفجأة ولن أنسي هذه اللحظة طول عمري، نادي كاتم الأسرار واسمه رياض. وقال: الولد ده يعود إلي الجيش!! ويكمل السادات: وعدت إلي الجيش برتبة اليوزباشي، ولكن ليست عندي بدلة، ولم أجد إلا واحدًا من الضباط الأحرار كنت أسكن في بيته، وكان في الشقة التي تحتي وطلبت منه بدلة سلف، وبعث بالبدلة وتشاء المصادفة أن يكون هو أيضًا برتبة يوزباشي، صاحب هذه البدلة هو "مصطفي كامل مراد" أما الفلوس التي في جيبي فقد نزلت إلي أربعين قرشًا.. وكان من المستحيل في ذلك الوقت أو في أي وقت، أن أفصل بدلة بأربعين قرشًا، وفي ذلك الوقت كان مصطفي السمري يبني عمارة إلي جوارنا، ووجدت فيها شقة جديدة، وانتقلت إليها ولكن الأثاث لم يأت بعد!! ويجيء جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر ولم أكن أعرف عبدالحكيم وإنما جمال عبدالناصر أعرفه من 19 عامًا وكان عبدالحكيم من الدفعة التي تليني والتي لم أرها في الجيش ولا في الكلية الحربية، وقال لي جمال عبدالناصر: اسمع أنت ستدخل امتحانات الترقي وعليك أن تبلغنا بموعد الامتحانات، فالضباط الأحرار هم المسئولون عن الامتحانات وعن تصحيحها وعن كل شيء وليس عليك إلا أن تحضر وتكتب أي كلام(!!) وبالفعل حضرت الامتحان وكتبت ما استطعت ولكنهم سحبوا أوراقي ووضعوا أوراقًا أخري عليها الإجابات الصحيحة، فلم يكن ممكنًا أن أجيب عن هذه الأسئلة وخصوصًا أن تطورات هائلة في سلاح الإشارة الذي يعتمد علي الإلكترونيات تنشر يومًا بعد يوم، ولو غاب الإنسان ستة شهور عن الجيش لوجد تطورات لا تخطر له علي بال، وسلاحي هو سلاح الإشارة ولا أدعي إنني أثناء غيابي عن الجيش قد تابعت التكنولوجيا الحديثة. ولو تركوني لكي استوعب التطورات الإلكترونية لاحتجت إلي عشر سنوات أخري". ولاتزال أوراق السادات حافلة بالأسرار والمفاجآت!!