في السابع والعشرين من ديسمبر 2008 استيقظ العالم علي وقع الغارات الجوية الإسرائيلية المكثفة علي عدة أهداف في قطاع غزة في إطار عملية عسكرية واسعة أطلق عليها اسم "الرصاص المسكوب"، وعلي الرغم من أن القيادة الإسرائيلية آنذاك لم تخف نيتها في القيام بعمل عسكري في القطاع بهدف إيقاف إطلاق الصواريخ الفلسطينية علي أهداف مدنية إسرائيلية بعد رفض حركة حماس تجديد التهدئة معها، فإن مسار العمليات الحربية وكثافة الطلعات الجوية التي بلغت ما يقرب 2500 طلعة ألقي خلالها ما يقرب من 2000 طن من القنابل علي رقعة جغرافية كثيفة السكان ولا تتعدي 380 كم مربع، كشف بوضوح عن أهداف أخري للحرب تمثلت أساسا في القضاء علي البنية التحتية لحركة المقاومة الإسلامية حماس إن لم يكن القضاء عليها نهائيا. وبعد مرور عام علي الأحداث تظل مأساة القطاع الإنسانية قائمة علي الواقع، دون أن يكون هناك تغيير ملموس في معالم المعادلة السياسية الرئيسية، وهو ما يمكن تلخيصه في النقاط التالية: 1 1- إن أغلب التعهدات السخية التي تم تقديمها خلال مؤتمر إعادة إعمار غزة الذي عقد في منتجع شرم الشيخ لم يتم الوفاء به، في وقت ظلت عملية إعادة الأعمار تراوح مكانها، واقتصرت الجهود التي تم بذلها علي السعي للحد من تفاقم التداعيات السلبية للحرب من خلال تقديم المساعدات العاجلة والعلاج للمرضي ونقل الحالات الخطرة بينهم، عبر معبر رفح الحدودي، إلي مستشفيات في مصر أو غيرها من الدول العربية أو الأوروبية، وبالإضافة إلي ذلك جرت عدة محاولات ذات تأثير رمزي أكثر منه مادي لكسر الحصار من قبل ناشطين أجانب. 2 - استمرت غزة تحت الحصار؛ حيث أبقت إسرائيل من سياستها القائمة علي التحكم في توقيت ونوعية الشحنات التي تمر عبر المعابر الرئيسية الواقعة تحت سيطرتها والمخصصة لدخول البضائع تطبيقا لسياسة الجرعات الضرورية لتجنب الانتقادات الدولية وغير الكافية لإنهاء الأوضاع المأساوية بالقطاع، وكان من أبرز نتائج ذلك عدم إمكانية البدء في عمليات إعادة الإعمار في ضوء رفض السماح بمرور مواد البناء اللازمة، وهو ما أدي إلي تصاعد حدة الأصوات المنددة بالصمت الدولي؛ حيث أوضح مقرر الأممالمتحدة المعني بالأراضي الفلسطينية المحتلة، ريتشارد فولك، أن استمرار مأساة سكان قطاع غزة من المتضررين من الحصار الإسرائيلي دون اعتراض دولي رسمي يمثل فشلا تحمل الحكومات القوية في العالم والأممالمتحدة لمسئولياتها، وطالب فولك حلفاء إسرائيل والولايات المتحدة بالإصرار علي ضرورة رفع الحصار غير القانوني المفروض علي القطاع، وأن يتم تدعيم ذلك بالتهديد بفرض عقوبات اقتصادية". ومن جانبها، ذهبت ست عشرة منظمة حقوقية دولية، من بينها العفو الدولية و أوكسفام، إلي القول بان المجتمع الدولي غدر بشعب غزة لعدم تمكنه من ترجمة أقواله إلي أفعال من أجل إنهاء الحصار الجماعي الذي يمنع إعادة البناء في القطاع. 3 - ظلت الحكومة المقالة التي تسيطر عليها حركة حماس في موقعها وعملت علي إحكام قبضتها علي مسار الأوضاع في القطاع، سواء من خلال التعامل المسلح مع التنظيمات السلفية أو فرض السيطرة علي عملية إطلاق الصواريخ علي الأهداف الإسرائيلية لتجنب مواجهة جديدة في توقيت غير مناسب، ووصل الأمر إلي حد رفضها عمليا إتمام الانتخابات التشريعية والرئاسية في القطاع تنفيذا للمرسوم الرئاسي القاضي بأجرائها في يناير المقبل، وهو ما قاد إلي تأجيل الاستحقاق الانتخابي إلي أجل غير مسمي. 44 - علي الرغم من الوقف الفعلي لإطلاق النار وانسحاب القوات الإسرائيلية، استمر الطرفان من الناحية العملية في حالة حرب، في ظل التوصيف الإسرائيلي لقطاع غزة علي أنه "كيان معادي" وعدم اعتراف حماس بشرعية الوجود الإسرائيلي، وبعبارة أخري فإن الوضع السائد منذ ذلك الحين يندرج في إطار التهدئة أو الهدنة المؤقتة، بما يعنيه ذلك من سيادة حالة اللاسلم واللاحرب؛ حيث تابع الجيش إسرائيل توغلاته في القطاع بين الحين والآخر وهو ما رافقه تصدي الأجنحة الفلسطينية المسلحة له. وعلي هذه الخلفية لم تتردد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية عن الإشارة من وقت إلي آخر إلي سعي حماس علي تطوير قدراتها العسكرية بل وتأكيدها إقدام الأخيرة علي إجراء تجارب ناجحة علي صواريخ قادرة علي أن تصل إلي تل أبيب. وعلي الرغم من رفض الحركة التعليق علي هذه الأخبار وإدراجها إياها في إطار الحرب النفسية، فإن مجرد التصريح بذلك، حتي وإن لم يكن صحيحا، يشير إلي استمرار وضعية التضاد بين الطرفين، وهو ما يمكن أن يؤدي إلي تفجر الوضع مجددا في ظل عقيدة الحروب الاستباقية الإسرائيلية. 5 - لم تتمكن إسرائيل من تحرير جنديها الأسير في القطاع من صفقة تبادل الأسري بين إسرائيل وحركة حماس بين التفاؤل والتشاؤم، وفقا لحسابات سياسية ومرحلية، بما يعنيه ذلك من تكريس وضعية حماس كفاعل أساسي في اللعبة السياسية من جانب، وتهميش دور السلطة الوطنية التي وجدت نفسها خارج دائرة المفاوضات من جانب آخر، فضلا عما قد تسفر عنه صفقة التبادل المرتقبة من تعزيز شعبية حركة حماس في صفوف الشعب الفلسطيني، بما في ذلك أوساط القاعدة الشابة لحركة فتح في ضوء إصرار حماس علي تضمين قوائم المطلوب إطلاق سراحهم اسم مروان البرغوثي. 6- تكرست ظاهرة الإفلات من العقوبة للمتهمين بالقيام بانتهاكات حقوق الإنسان وجرائم ضد الإنسانية خلال الحرب علي غزة. فعلي الرغم من صدور تقرير اللجنة التي شكلها مجلس حقوق الإنسان لتقصي الحقائق في هذا الخصوص وما تضمنه من نص واضح علي أن العملية العسكرية الإسرائيلية علي القطاع استهدفت شعب غزة بأكمله من أجل معاقبة السكان، وإن استمرار الحصار وإغلاق المعابر عقوبة جماعية تمثل جريمة ضد الإنسانية، لم يتم رصد أي تغيير في التعامل مع الملف من قبل المجتمع الدولي؛ في حين ظل التقرير، الذي شهد خروجه إلي حيز الوجود مخاضاً صعباً، حبيس الأدراج في انتظار تحديد مدي التقدم الذي تم إحرازه في تنفيذ توصياته خاصة المتعلقة بتشكيل لجان تحقيق داخلية ذات مصداقية، وهو ما تغيب المؤشرات الفعلية علي احتمال تحققه في الفترة المقررة. 7 - أضحت المحاكم الأوروبية ساحة من ساحات إدارة الصراع بدلا من أن تكون أداة لتحقيق العدل والإنصاف لضحايا الحرب وقتلي القطاع؛ فمن جانب، سعت جماعات حقوقية - دون جدوي- إلي استصدار قرارات قضائية للقبض علي المسئولين الإسرائيليين المتهمين بارتكاب جرائم حرب في غزة لتقديمهم للمحاكمة في البلاد الأوروبية التي تسمح قوانينها بذلك، كما كان عليه الحال في انجلترا بالنسبة لإيهود باراك وتسيبني ليفني، ومن جانب آخر، أقدم إسرائيليون يحملون جوازات سفر بلجيكية علي رفع دعاوي أمام القضاء البلجيكي مطالبين باعتقال عشرة من قادة حركة حماس بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تجاه المدنيين الإسرائيليين. وفي هذا السياق ضاعت الحقيقة ودخل البعد القانوني والقضائي كأداة جديدة من أدوات الصراع، مما قد يؤدي إلي تشويه الحقائق وإضاعة الحقوق.