يبدأ فيلم برسونا لإنجمار برجمان من نقطة قصوي، وهي احتراق شريط فيلم داخل آلة العرض السينمائي. وكما لو كان احتراق شريط الفيلم يعود بنا إلي صوره الأولية، أو كما لو كان شريط الفيلم يسترجع أمامنا للمرة الأخيرة سيولة ذاكرته. عنكبوت ذئبي بسيقان مُشْعِرة، عينان مغلقتان تنفتحان بتزامن مع تغيير حجم اللقطة وثبات الزاوية مما يحدث قفزة مُفاجئة، وجه عجوز صامت، رسم كرتوني مقلوب لامرأة تغسل ساقيها في بحيرة، أطراف أياد وسيقان مرتخية، مسمار يدق في راحة يد، أحشاء خروف تنزلق لامعة مُخاطية. لا طريق لنا في قراءة فيلم برسونا عبر بدايته القصوي، أي أن احتراق الفيلم داخل آلة العرض السينمائي، ليس له علاقة بقصة الفيلم الحقيقية التي تبدأ مُباشرة بعد تتابع الصور القصوي. أثناء دراستي للسينما كانت مُحَاوَلَة دمج مسمار يخترق بطن اليد- صورة قصوي- مع حياة الممثلة إليزابيث فولجر- صورة حقيقية- هي سقطة التأويل المفرط الشائعة في قراءة الفيلم. وكان معيار المرح واليأس أن يصل أحد الدارسين إلي سؤال، إذا كان شريط الفيلم المُحترق داخل آلة العرض السينمائي، هو نفسه فيلم برسونا؟ أو أن يصل واحد أكثر شططاً إلي الربط بين احتراق الراهب البوذي في أحداث سياسية داخل المادة التلفزيونية المعروضة أمام إليزابيث فوجلر، وبين احتراق شريط الفيلم داخل آلة العرض السينمائي، وكأنّ صور فيلم برسونا الحقيقية، هي سيولة ذاكرة البوذي المحترق، بالرغم من السبق الزمني لواقعة انتحار الراهب البوذي علي زمن تصوير فيلم برسونا. بصوت هادئ تحكي الطبيبة حالة ليف أولمان للممرضة بيبي أندرسون. تقرير الطبيبة مٌحايد وصاف ومعزول عن أدني تعاطف إنساني، تقرير موضوعي، وكعادة برجمان يتم حرق النقاط الضعيفة درامياً ببرود، فيبقي تقرير الحالة عارياً إلا من أداء الطبيبة القوي، وبساطة الميزانسين، والتقاط أبعد التفاصيل لراحة الكاميرا، فبينما تستمع الممرضة ألما إلي تقرير الطبيبة، ترتاح الكاميرا علي يدي الممرضة المضمومتين وراء ظهرها. تتعرَّض إليزابيث فوجلر علي خشبة المسرح أثناء أداء دورها لمسرحية إلكترا إلي صمت مُفاجئ، وتنظر النظرة الشهيرة لممثلي برجمان، وهي نظرة تكاد تصطدم بعدسة الكاميرا، نظرة مُرحَّلة قليلاً عن عين العدسة، وعن عين المُشاهِد، نظرة توهم بأن عين العدسة ليستْ هي عين المُشاهِد. إن المعضلات التقنية تذوب في سينما برجمان مع معضلات جمالية مُجرَّدة، بمعني أن التطابق الآلي والتقني بين عين الكاميرا وعين المُشاهِد لا يسمح بحفر ممر ضيق خطير تنفذ منه النظرة إلي أفق غير محدود. تعود ليف أولمان بنظرتها إلي الجمهور الحاضر في كتلة سوداء بفعل كشَّافات الضوء المُسلَّطة عليها، وتهم بقول كلمات المسرحية، لكنها لا تستطيع سوي العودة مرة ثانية بنظرة الاستغاثة الباردة التي تنفذ كما الشعْرة بين عين العدسة وعين المُشاهِد، ويبقي الانطباع الغريب لأحمر شفاه الممثلة الخارج قليلاً عن حدود الشفتين ألماً رخيصاً لا مثيل له طوال الفيلم. يتحدَّث برجمان في سيرته الذاتية عن مخلوق يعيش داخله، يتحرك في أعماقه، ويوشك علي ولادته، هذا المخلوق، نصفه إنسان، والنصف الآخر مسخ، ورغم أن الكائن المسخ يأتي في سياق حديث برجمان للتعبير عن حالته الإبداعية في زمن الشيخوخة، إلا أن كلماته عن الكائن المسخ، تصلح بأثر رجعي، وبشكل لا شعوري، لتفسير الصورة الشهيرة الشائهة في فيلم برسونا، بين وجهي بيبي أندرسون وليف أولمان، أكثر علي سبيل المثال، من انزعاج ليف وبيبي عندما عرض برجمان عليهما في غرفة المونتاج، تركيب الوجه، وكان انزعاجهما من مُفاجأة القبح المنسوب إليهما. أعتقد أن برجمان كان سعيداً بالتملُّص الأنثوي الرقيق، وكأنَّه حاز العمق والسطح معاً. في حلم لليف أولمان، كانت بيبي أندرسون علي حدود غابة، وكانت تتبادل مع زوجها وطفلتيها، قذف كرات صغيرة من الثلج، وعلي بعد بضعة أمتار، وبزاوية منحرفة كانت ليف تقف ساكنة. وليس لأدني عاطفة كانت تشعر بها ليف ناحية بيبي، بل لأنها في زاويتها المنحرفة أحستْ بالوحدة والغيرة، تناولتْ كرة كبيرة من الثلج، وقذفتها علي بيبي. انتبهتْ العائلة إلي الغريبة التي دخلتْ في المشهد. كان مثلث من النظرات في غاية الإحراج. بيبي علي رأس المثلث، والزوج والطفلتان وليف علي قاعدة المثلث. حاولتْ ليف مرة ثانية بكرة ثلج أكبر، وهي تقترب من بيبي، فأسرع الزوج والطفلتان لتغطية بيبي أندرسون بأجسامهم.