أحيانًا تبدو الأمور علي غير حقيقتها بسبب التركيز علي جانب معين من الموضوع دون غيره من الجوانب الأساسية، مثل مسألة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة. القضية الفلسطينية أساسًا هي قضية أرض مغتصبة بالقوة من أصحابها منذ بدأت الأزمة وحتي الآن، قضية احتلال أرض عربية وفلسطينية في حرب يونيو 1967، ولا يجب السماح أبدًا بنسيان ذلك في غمرة الحملات السياسية المتداولة بغرض البحث عن حل. عند البحث في أساليب للتنصل من الالتزامات الدولية نجد أنها تتركز في مناورات مستمرة لإبعاد توصيف الاحتلال والتركيز علي فكرة توفير ملاذ للفلسطينيين، سواء كان دولة منزوعة السلاح والقوة أو مجتمعا اقتصاديا، بشروط إسرائيلية. كلما اقتربت الجهود الدولية من تضييق الخناق علي السياسة الإسرائيلية تسارع القيادة الإسرائيلية في خلق مسار آخر يجري التركيز عليه للهروب من الضغوط حتي تتغير الظروف الضاغطة عليها بفعل عوامل الزمن، أو تغير الأولويات الدولية، أو أخطاء يرتكبها الطرف الفلسطيني. يحدث ذلك الآن في موضوع تجميد المستوطنات في الضفة الغربية وفيها مدينة القدسالشرقية التي تضم المقدسات الإسلامية والمسيحية، وهي أساسًا أرض محتلة ولا يجوز بأي حال تغيير طبيعتها وفق القانون الدولي، الاستيطان في هذه المناطق ربما يزيد الأمر تعقيدًا ولكن علي من؟ في نهاية الأمر يتعين علي إسرائيل سحب المستوطنين من الأراضي المحتلة طالما لم يتخل أصحاب الحق عن حقهم، ولعلنا نلحظ أنه رغم مضي الوقت منذ الاحتلال الثاني للأراضي الفلسطينية لم يقبل المجتمع الدولي الاعتراف بأي شرعية للاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، حتي أقرب الحلفاء لإسرائيل يعتبر الاستيطان غير مشروع. تحرص كافة الدول بين الحين والآخر علي تأكيد عدم شرعية المستوطنات بما في ذلك الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وهي الدول التي أعطت الشرعية لقيام دولة إسرائيل في عام 1948، ثم وفرت الحماية لها علي مدي نصف القرن الماضي. الآن أصبحت تلك الدول غير قادرة علي تجاهل حقوق الفلسطينيين لمزيد من الوقت. يعتبر المجتمع الدولي إقامة المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية خرقًا للقانون الدولي وللفقرة ال49 من اتفاقية جنيف الرابعة، ويظهر ذلك علي وجه الخصوص بتبني مجلس الأمن في الأممالمتحدة للقرار رقم 448 في مارس 1979، الذي اعتبرها غير قانونية.. والغرض من إنشائها هو عرقلة وتعقيد الانسحاب من الأراضي المحتلة. إسرائيل تناور في موضوع المستوطنات بزعم أن هناك مستوطنات شرعية أو قانونية وأخري غير قانونية وذلك للتهرب من الالتزام بقرارات الشرعية الدولية التي سبق أن أكدت أن الأراضي المحتلة لا يجوز تغيير طبيعتها أو ضمها إلي دولة الاحتلال، ولكن كما قلنا لا أحد يشاركها في سلوكها الاستيطاني. حين بدأ الرئيس الأمريكي أوباما معالجة قضية الشرق الأوسط كانت مسألة الاستيطان تشكل ظرفا ضاغطا نظرًا لأنها تزيد من معاناة الفلسطينيين بسبب مصادرة الأراضي وزيادة المشكلات الأمنية في الأراضي المحتلة مما جعل المفاوضات تبدو عبثية بين السلطة الفلسطينية التي اختارت نبذ العنف ووافقت علي اختيار أسلوب التفاوض علي أساس القانون الدولي، وبين إسرائيل التي ظلت في حالة تجاهل للقانون الدولي واستمرت في التعامل مع الفلسطينيين باستخدام القوة لإجبارهم علي إخلاء منازلهم وهدمها أو إعطائها للمستوطنين اليهود، ونزع ملكية أراضيهم لإقامة مستوطنات عليها. لم يكن في وسع الرئيس الأمريكي لمقاربة الموضوع سوي أن يطلب من إسرائيل تجميد الاستيطان لكي يستطيع جمع الأطراف علي مائدة مفاوضات تضع آليات إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية كنهاية طبيعية للصراع في الشرق الأوسط الذي يهدد مصالح الولاياتالمتحدة فضلاً عن مصالح دول المنطقة بما في ذلك الدولة المعتدية إسرائيل. بالطبع ليس من الممكن إجراء مفاوضات علي غير أساس واحد وهو نبذ استخدام القوة واعتماد القانون الدولي كمرجعية للطرفين وهذا هو مغزي موافقة الفلسطينيين علي اتفاقية أوسلو التي رفضها البعض في حينه ومازالوا يرفضونها حتي الآن، اعتماد القانون الدولي بدلا من استخدام القوة يعني عدم شرعية الاحتلال وعدم شرعية كل ما ترتب عيه من مظاهر مثل ضم الأراضي والاستيطان، ويتعين إنهاء الاحتلال بكل مظاهره لصالح قيام الدولة الفلسطينية المستقلة. تعقد الموقف فجأة ليس لمماطلة إسرائيل ورفضها تجميد الاستيطان ولكن لما بدا أنه تراجع في موقف الرئيس الأمريكي إزاء موضوع الاستيطان استجابة للضغوط الإسرائيلية، وهنا نشير مرة أخري إلي أن الاستيطان ليس المعني في حد ذاته وإنما الموقف العام من مسألة احتلال الأراضي وحتمية الاحتكام للقانون الدولي كبديل للعنف واستخدام القوة. لتأكيد عدم تغير الموقف الأمريكي وإنقاذ جهود الرئيس أوباما جاءت الوزيرة كلينتون إلي القاهرة في زيارة غير مخططة لتعلن منها بعد مباحثات مع الرئيس مبارك، أن الولاياتالمتحدة لا تقبل بشرعية الاستيطان الإسرائيلي، لكنها تعتقد أن المحادثات هي أسرع الطرق لإنهاء الجمود الحالي الذي أصاب عملية السلام. في تأكيده علي ثبات الموقف المصري وما سمعته كلينتون من الرئيس مبارك قال أحمد أبو الغيط وزير الخارجية أن مصر ترفض موقف إسرائيل من استمرار الاستيلاء علي الأرض وتطالب بضمانات أمريكية مدعومة دوليًا بأن تقوم الدولة الفلسطينية علي خطوط 1967 وبكامل حجم الأراضي التي تم احتلالها في 67 وعاصمتها القدسالشرقية.. مؤكدًا أن بدء المفاوضات يأتي إما بالتجميد الكامل للاستيطان أو إذا حصلنا علي ضمانات قاطعة بأن الدولة الفلسطينية تقوم علي خطوط 1967 بما فيها القدس وعندئذ تكون القضية قد حسمت لصالح الفلسطينيين. إن جوهر عملية السلام هو إنهاء الاحتلال، وهدف مفاوضات السلام بين الطرفين هو الاتفاق علي آليات إنهاء الاحتلال وإنهاء الاحتلال يعني في نهاية الأمر سحب المستوطنين.. ولو بعد مائة عام.