وأنا والله وقعت في حب هذه المدينة، ولو قالت لي جدتي منذ أربعين عاماً إني سأهوي غريمي لما صدقتها، لكن الحب ما لنا عليه من سلطان ووقوعه لا محالة حاصل. فها أنا يا جدتي، وأراك لا تصدقينني، في تاكسي يقوده عدو صار اليوم حبيباً، أجلس جوار عدو آخر صار اليوم قريباً. كانوا والحق يقال أعداءك أنت يا جدتي، أما اليوم فلم تعد تربطني بتلك الذكري الأليمة سوي صفحات كتاب التاريخ. التاكسي يجوب أرجاء المدينة التي وطئتها منذ يوم واحد لا من طريق البحر ولا من طريق الأرض ولكن من الجو يا جدتي، من الجو. هبطت هنا كعصفور الثلج، وجلة مرتعدة، أحمل علي عاتقي هم الدنيا التي جئت منها فإذا بسهام المحبة تشعل النار في عروقي ولحظ الحبيب يصيب، وهذا ما جري وما كان من دخولي متاهة العشق. في التاكسي أتضاحك مع أستاذ بريطاني لسانه يثقل بكلمات فخمة ينطقها بثقة المستعمرين القدماء، وإلي جواري أستاذة بريطانية لا تكف عن التندر بزيارة سابقة للمدينة وذاكرتها القصيرة حية مزهوة بمعارف شتي... هذا قصر وهذا جامع وذاك سبيل وهناك طريق صاعدة تصل بك إلي أول شارع الاستقلال وطريق أخري هابطة تصلك بالبوسفور ومن الناحية المقابلة، لو ركبت البحر وسافرت قيد ربع ساعة، تصلين إلي الجهة الآسيوية وهل زرتِ الجهة الآسيوية ولا تنتظر إجابة تكمل علي نفس الوتيرة وهذا الإيوان يعود تاريخ بنائه إلي القرن السادس عشر وسائق التاكسي يدير لنا قفاه ويبدو من انحناءة كتفيه أنه استسلم منذ سنين لقدر سائق التاكسي، ببغاء أخرس في قفص الببغاوات الثرثارة. لسان هؤلاء السائحين ليس لسانه وعيناه لا تريان ما تراه أعينهم. لو انفكت عقدة لسان السائق لقال لنا أشياء غير تلك التي تنزلق انزلاقاً من بين شفتي جارتي. السائق الذي لا أعرف له ملة ولا أصلاً يبدو من أهل هذه البقاع الغريبة، صمته وترفعه يدلان عليه، من بيت حسب ونسب لا شك، فقير ورفيع المقام بنسبه للقبيلة. ظل صامتاً طوال الرحلة، كعادة البدو الرحل وسكان الجبال العالية وأصحاب الأساطيل التي صالت وجالت في البحار جنوباً وغرباً وشرقاً إبان ازدهار الإمبراطورية. تسلم أجره دون مماطلة وتمتم: "تشكرات" فأجابه الأستاذ البريطاني بأحسن منها: "ثانك يو سو ماتش". الحب يا جدتي أوله هزل، ولو كان المحبوب مدينة فالهزل وارد بأشكال ومعان كثيرة. طاقة نور تتفتح في الفؤاد يا جدتي، ضياء يشع من عمق سحيق في الروح فتحل علي النفس السكينة، كأنك وجدت ضالتك أو كأنها وجدتك ورفعتك وقبلتك بين عينيك. أينما أولي وجهي ثمة ماء. والماء حياة تنسكب في الشريان وتتلألأ علي ضفافها لذة العيش وهناؤه. البوسفور من ناحية والخليج من ناحية والمدينة تنام علي الضفتين وتعلو تلالها هنا وهناك، توزع البهجة علي الناظرين بلا استثناء. لا قصر يخفي قبح الكوخ ولا بيوت فخمة تستأثر ببهاء المشهد. تلال تطل علي المضيق من كل جانب كأن المدينة تسلقتها واستقرت عليها وانتشرت منها للعالم. وكأنك في أوروبا يا جدتي، وكأن قطعة من أوروبا ندهتها نداهة الشرق فباتت ليلتها وأصبحت مسلمة، جوامع ومآذن، يقولون ألفاً أو يزيد، وطرق معبدة ومرور منتظم وحدائق عامة معتني بها، وأمطار موسمية تغسل ذؤابات شجر السرو وحواف الأرصفة، وسيارات جديدة بلا خدوش يقودها سائقون محترفون، مسرعون كعادة الدماء الحارة، سرعة منظمة. وحوار كثيرة، متاهة من الطرق الصغيرة في قلب المدينة القديمة، ثم شارع الاستقلال الذي لا آخر له، خط متعرج يخترق الجسم وتتفرع منه أذرع تطول أو تقصر لتصل القلب بالأطراف. شارع البنايات الأوروبية، استعادة لتاريخ المعمار اليوناني والروماني والبيزنطي وتجلياته الحديثة، تاريخ الشرق والغرب معاً. أما السوق يا جدتي وما أدراك ما السوق، فلابد مما ليس منه بد. هي مدينة البحارة والرحل، شاهبندر تجار العالم القديم، السوق فيها تمتد عدة كيلومترات، مسقوف ومبلط ونظيف وآمن. الشرطة تقف فقط عند المداخل. سوق الذهب يحميه أصحابه، وسوق السجاد تتوارثه الأجيال وسوق الخزف والسيراميك والمصنوعات الجلدية والفضة فسيح وعامر، وسوق الملابس والأقمشة ممرات ودهاليز. السوق كما لم أره من قبل. المحلات تقع علي كل جانب بانتظام وهرجلة في الوقت نفسه، ألوان وعمارة السوق فرجة في ذاتها، لا تشتري شيئاً الآن فقط تأملي تلك البهجة، هؤلاء الناس ينادونك، تكلمي معهم بأية لغة تريدين، سيفهمونك وستفهمينهم، جابوا البحار وعرفوا الشعوب واحتلوهم أيضاً لكنهم لم يذوقوا مرارة الاحتلال (سنوات قليلة معدودة مثل فرنسا، ولكنها لا تحسب) المقاهي تقدم "الشاي" يستغرق عمله عشر دقائق، والقهوة لذيذة بلا مرارة، والحلويات ملبن ونوجة وفاكهة مجففة بالعسل وبقلاوة بالمكسرات. مصباح علاء الدين، اشتريته لابني، وقال البائع ليمتحنني إن كنت حقاً مصرية إنه قريب ممثل مشهور في مصر. سألني عن الممثل "فغيد شفكي" وخمنت بعد تردد أنه يقصد "فريد شوقي"...ضحكت حتي انخلع قلبي فيما أخذ الرجل يؤكد أنه قريبه وأن ابن شفكي نفسه طبيب مقيم في المدينة. دفعت المبلغ المطلوب لمصباح علاء الدين وودعني صاحب المحل وهو يقول: من حقك ثلاث أمنيات يحققها لك الجني، أمنية لك وأمنية لزوجك وثالثة لحماتك. وضحك ملء شدقيه. أمنية لي؟ ليتني أعود لتلك المدينة يا جدتي. مئات التفاصيل الصغيرة لم أحكها لك، زرت آيا صوفيا والجامع الأزرق وقصر طوبكابي ولكل مكان من تلك الأماكن سحر وأسرار. التقطت مئات الصور، أهديها لأمي التي أحبت المدينة من المسلسلات، رأيت مئات العيون ورأتني، سمعت أصواتاً وألحاناً من الجنة، الأذان في الفجر ليس كمثله شيء، يقال حرمت الأصوات الناشز من اعتلاء المئذنة... كل شيء يطل علي البوسفور، وكل البوسفور يرعي مدينة الأحلام، قسطنطينية الشرق، اسطنبول. يتبع