أيام الصبا، أيام اللهو والاكتشافات الكبري، الكبري بعقلية الصبي، اكتشفت ذلك المكان بمحض الصدفة، طفل لم يتجاوز السادسة، وخلف البلدة الجبل، يحيط بها، أو تلبد هي في باطه، عملاقا وشاهقا، وخلفه المجهول، كنت ومجموعة العيال نتحين الفرص لتسلقه والذهاب لأبعد نقطة، إلي سن الجبل، رغم كل الحكايات والوصايا التحذيرية، التي أعدت كي نخترقها في الخفاء. في الخريف تأتي الطيور المهاجرة، البلشون، في جماعات، يطير في حلقات بلونين: أبيض و أسود. أحيانا يكون طيرانه منخفضا وقريبا جدا لدرجة أن نسمع خفق الأجنحة، وفي مرات بعيدا وعاليا بالكاد نلحظه، ونادرا ما يحط، كنا نراه ينزل خلف الجبل، فنتسابق للحاق به، ونحن نمني أرواحنا بالقبض علي واحد منها، هكذا بأيدينا العارية؛ دائما الخيبة حليفنا، وللتخفيف من حدتها، نشغل أنفسنا ببعض الألعاب، أو مطاردة بعضنا البعض عبر لعبة الاستخفاء، هكذا وقعت عليه جحري الرطيب الدافئ. حجر عال وضخم يجلس متربعا فوق قاعدة من الصخور التي حرقتها الشمس اللاهبة، يشرف الجحر الواقع في منتصف الجبل علي البلدة، يطل عليها من ناحية، و من الجهة الأخري، حيث القاعدة المزنوقة في ممر ضيق بين الصخور التي تحيط به، كان يوجد جحر صغير وظلام لا تصله الشمس، بدا مكانا رائعا للاختباء، نزلت بجسدي عبر الممر، ورحت أندس داخل الجحر، متناسيا تماما أن هذا المكان قد يكون جحرا مثاليا للثعالب أو الذئاب، وفي أسوأ التقديرات جحر زواحف: حيات وطريش وما شابه. لكنني كنت قد تخطيت فتحة الجحر ودخلت. المفاجأة الأولي كانت في اتساع المكان، تجويف صخري، بالكاد يسمح لي بالوقف، لكنني يمكن أن أتمدد فيه براحتي، ويبقي مكان لشخص آخر؛ الثانية رطوبة المكان المذهلة والتي لا تمت للهيب المشتعل بالخارج، والذي قدمت منه لتوي، في الشتاء سيكون العكس الدفء التام، الثالثة- وهي الأهم- طاقة صغيرة مفتوحة في مقدمة الجحر، لم ألحظها في البداية، والضوء هو الذي نبهني، ذهبت إليها، ووضعت عيني، وهالني ما أري. البلدة كلها تحت ناظري، من أولها لآخرها، البيوت، الشوارع، الأزقة، الرجال في الحقول، نسوة جالسات في ظل أحد البيوت، بعض العيال يلعبون، واحد يتسلل خفية من....؛ ثم النهر والجزيرة وبعض قوارب الصيادين، والمتسلل يقترب... ووقعت في أسر الجحر. من المؤكد أن مراقبة الحياة دون التورط فيها بشكل مباشر هو أكثر ما شدني للجحر، بالطبع أيضا رغبتي في الانعزال، وامتلاكي بعض الأسرار والأماكن الخاصة هو ما جعلني ألا أفشي سر جحري الحبيب؛ أعلن تشيكوف ذات مرة عن رغبته في أن يكون لا مرئيا حتي يتمكن من المراقبة والتلصص علي الأفعال البشرية، دون أن يراه البشر، كي لا يعدلوا عن أفعالهم، أن نراهم وهم مطمئنون تماما أن لا أحد يراقبهم، ربما كانت تلك رغبة الصبي أيضا بداخلي، فصار الجحر ملاذي ومكاني الأثير. تغيرت الأماكن وتبدل الزمان وغادرت البلدة نحو مدينة أسوان، وكنت كلما عدت للقرية أذهب للجحر متوحدا خاصة في أوقات القيلولة، بعد فترة لم أجد الحجر ولا الجحر، فمع تمدد البلدة ونهشها في كتف الجبل، تم تكسير وقطع الكثير من الحجارة، كان من بينها جحري، جحري الرطيب الدافئ، والذي رغم كل السنوات التي مرت ما أزال أحن إليه، خاصة وأني لم أجد بديلا له، بديلا عن الرحم.