التاريخ ليس ما نكتبه بالحبر، بل ما كتب بالدم والتضحية هكذا عبر الفيلسوف الفرنسي أندريه مالرو عن جوهر البطولة، وما أصدق كلماته إذا ما أسقطت علي أبطال العبور فى حرب أكتوبر المجيدة حيث امتزجت الأرض بنداء الشجاعة والبطولة وتعانقت السماء مع صيحات النصر. بطولات وتضحيات.. لا تنسى ولكن كانت اسرهم لها حال آخر يتابعون اخبار الجبهة وأولادهم لحظة بلحظة.. الأبطال على الجبهة مقاتلون لا يرون إلا النصر او الشهادة ولكن عندما عادوا منتصرين تعانق الحنين فى لحظات لا تنسى نسمعها اليوم من ثلاثة أبطال.
طلبة: صرخة ميلاد ابنى وسط دوى المدافع
فى قلب نيران الحرب وصخب المدافع، تولد أحيانًا لحظات إنسانية خالدة، لحظات يتجاور فيها البكاء مع الضحك، والخوف مع الرجاء، والموت مع الحياة. فى حرب أكتوبر المجيدة، حيث كانت الأمة كلها على المحك، لم يتوقع اللواء أركان حرب محمد عبدالمنعم طلبة أن يعيش أعظم لحظة فى حياته الخاصة، بينما يخوض أعظم معركة فى تاريخ وطنه، فى العاشر من أكتوبر 1973، وبين أصوات القذائف ورائحة البارود، جاءه خبر ميلاد ابنه الأول.. صرخة حياة جديدة اخترقت جدار الموت، وشقت طريقها وسط دوى المدافع. يروى اللواء طلبة تفاصيل تلك الأيام قائلًا: كان المشهد فى منتهى الصعوبة عندما وصلنا إلى الضفة الشرقية للقناة. فوجئنا بالمقذوفات الإسرائيلية فى انتظارنا، فقد كانوا يتوقعون تحرك قواتهم فورًا لدعم النقاط الحصينة. لكننا كنا مستعدين، وتعاملنا معها بسرعة وحسم. كل شيء كان محسوبًا بدقة متناهية، لم يكن هناك ما هو خارج الحسابات سوى الثغرة بين الجيشين. كان الهاجس الأكبر يطاردنا طوال الوقت: ماذا لو لجأت إسرائيل لاستخدام أسلحة غير تقليدية، نووية أو غازات سامة؟ لذلك كنا مجهزين دائمًا بالأقنعة الواقية، مستعدين لكل الاحتمالات. يتوقف قليلًا، ثم يتحدث بنبرة امتزج فيها صوت المقاتل بوجدان الأب: رغم قسوة الحرب، فقد ارتبطت فى ذاكرتى بذكرى إنسانية لا تُنسى، فى العاشر من أكتوبر، علمت أن زوجتى نُقلت إلى المستشفى. سمح لى قائدى أن أغادر فى السادسة مساءً وأعود منتصف الليل، مستغلين فترة من الهدوء. أسرعت إلى المستشفى، فوجدت زوجتى بصحبة والدتى. أوصلت والدتى إلى البيت، وعندما عدت لم أجدها. أخبرتنى الممرضة أنها دخلت غرفة العمليات. ارتبكت الكلمة فى أذني؛ حياتى كلها كانت تدور حول (العمليات العسكرية)، ولم يخطر ببالى إلا المعنى العسكرى. كنت وقتها برتبة رائد، أرتدى الزى الرسمى، والعرق يمتزج برائحة البارود على بدلتى. ويتابع: دخلت الغرفة وهناك التقيت الطبيب على إبراهيم الذى كان يباشر حالة أخرى. حين رآنى أدرك الموقف بسرعة وقال بذكاء: اتركوه، لا أحد يتحدث معه. لم تمضِ لحظات حتى دوّت فى أذنى صرخة الميلاد. رأيت ابنى لأول مرة، وزوجتى بخير، ثم عدت إلى موقعى مطمئنًا، أقوى وأكثر إصرارًا. يختم اللواء "طلبة" شهادته بكلمات راسخة: ارتبطت الحرب فى وجدانى بأعظم لحظة شخصية فى حياتي؛ لحظة ميلاد ابنى بين قذائف الحرب لتظل تلك الصرخة شاهدًا خالدًا على أن الحياة أقوى من الموت، وأن الأمل يظل حاضرًا حتى فى أقسى الظروف.
العادل: الناس كانوا يسألون عن الوطن أكثر من أولادهم على الجبهة
عندما تعلو قيمة الوطن فوق حب المال والأبناء، تنتصر الإرادة على بساط المستحيل. عندها لا يُنظر إلى الإمكانات العسكرية إلا باعتبارها جزءًا من منظومة أكبر، وهذا ما حدث فى حرب أكتوبر 1973، فبرغم التفوق الإسرائيلى عسكريًا، انتصر الجندى المصرى صاحب الإرادة والتاريخ والدعم الأسرى على المقاتل الإسرائيلى المدجج بأحدث الأسلحة. يتحدث الرائد الوليد العادل عن تجربته قائلًا: أثناء حرب أكتوبر كنت متزوجًا حديثًا، لم يمر على زواجى سوى عام واحد تقريبًا. ومع ذلك، لم أفكر لحظة إلا فى المعركة: كيف ننتصر؟ كيف نستعيد الأرض؟ كيف نحمى العرض؟ يرفع الرائد سبابته إلى السماء ويكمل حديثه بصوت مفعم بالصدق والانفعال: والله ودون مبالغة، الناس فى مصر ما كانتش بتسأل عن أولادها بقدر ما كانت تسأل عن البلد. كانوا يتابعون أخبار الوطن قبل أخبار أبنائهم، واللى ربنا كان بيكرمه بالشهادة، أهله كانوا رغم حزنهم كانوا يقولوا فداء البلد واللى فى الحرب كان كل همه البلد. يتوقف قليلًا، ثم يضيف :"أنا شخصيًا أصبت مرتين. الإصابة الأولى كانت فى 1967، لكننى لم أعلن عنها قط، وتعالجت ميدانيًا. كنت واثقًا أن حربًا أخرى ستقع، وكنت أرى أنه لا يجوز أن تندلع حرب فى مصر وأنا غائب. لذلك لم أقل إننى مصاب والحمد لله، شاركت فى حرب أكتوبر 1973، وأصبت مرة ثانية إصابة كبيرة تسببت فى نسبة عجز، وكانت هى سبب خروجى من الخدمة. لكننى أحمد الله أننى شاركت فى معركة أعزت مصر ورفعت رايتها. وبنبرة هادئة واثقة يستطرد بطل أكتوبر :ما زال الشعب المصرى كله خلف جيشه، داعمًا له بكل قوة. وأقول دائمًا: مصر لا يمكن أن تدخل حربًا ونحن فى بيوتنا. ويتابع الرائد "العادل»: نحن أدينا واجبنا ولم نكن ننتظر شكرًا من أحد. بل نحن الذين نشكر بلدنا لأنها شرفتنا وكرمتنا بأن جعلتنا نؤدى هذا الدور العظيم إذا كان هناك فضل، فالفضل لمصر علينا. رسالتى للناس اليوم: من فضلكم، آمنوا بأنكم قادرون نحن شعب عظيم. ما حدث فى أكتوبر خير دليل: كنا فى أدنى نقطة ممكنة، ومع ذلك حققنا أعلى إنجاز ممكن. فأرجوكم، احرصوا على بلدكم. ويختتم بطل أكتوبر كلماته قائلًا: أنا اليوم رجل تجاوزت السابعة والسبعين من العمر. لا أريد شيئًا من أحد. فقط أقول للرئيس: يكفينا أننا مطمئنون على بلدنا بوجودك. وهذا فى حد ذاته أكبر شكر.
التميمى: والدى قال لى حين رآنى حيًّا بعد استشهاد أخى: « أنا كنت عميت وعين منهم فتحت»
قلوب الناس جميعًا بين صدورهم، إلا قلوب الآباء والأمهات، فلهم قلوب إضافية تمشى على الأرض مع أبنائهم. وفى أكتوبر 1973، حين اصطف على الجبهة أكثر من مليون ومئتى ألف مقاتل، خرجوا من بيوتهم مودَّعين بقلوب أسرهم، فى ضمان الله، فداءً للوطن. بين هؤلاء كان يقف رجل جاوز السبعين، عمّ التميمى، الذى عاش أيام النضال مع الفدائيين على ضفاف القناة، قبل أن يجذبه الحنين إلى الجبهة المصرية وهى تستعد للمعركة الكبرى. كان قلبه هناك، حيث يقف ولداه: محمد ومحمود. أنجبهما فى سن متأخرة، بعد الخمسين، لكن القدر شاء أن يبلغه خبر استشهادهما فى معارك أكتوبر. يقول العقيد محمد التميمى: "أبويا كان راجل كبير فى السن، وهو من الفدائيين اللى قاوموا زمان على القناة، واتجوز متأخر وخلفنى أنا وأخويا الشهيد محمود.. أنجبنا بعد سن الخمسين، وده بيخلى التعلق بين الأب وأولاده أكبر، حاجة غريزية. كان والدى لما أى واحد فينا يعيى شوية أو يبجى له برد، ما يخرجش من البيت ولا يروح شغله. فكان صعب جدًا جدًا عليه إن واحد مننا يجرى له حاجة". شاء القدر إننا نكون إحنا الاثنين على الجبهة. وأنا عمرى ما نسيت الفكرة اللى كانت بتطاردنى وإحنا بنعدى القناة فى ظلام الليل، قبل الحرب وأثنائها: "يا ترى لو واحد مننا اتصاب أو دراعه اتقطع، أبويا هيواجه ده إزاي؟ دى كانت هواجس بتلف فى دماغى طول الوقت". يتوقف العقيد "التميمى" قليلًا، يغالب دموعه قبل أن يتابع: أصعب لحظة فى عمر والدى كانت يوم العيد الصغير، لما وصله خبرنا أنا وأخويا.. محمود كان قائد الموانع المتحركة بالفرقة، وكنا بنشتغل فى قطاع واحد. هو كان أكبر منى بسنتين، واستشهد فى الحرب. ولما رجعت أنا بعد استشهاده وشافنى والدى حى، بص لى بعين مليانة دموع وقال: "أنا كنت عميت.. وعين منهم فتحت"، واستودعنا محمود شهيدا عند الله فداء لوطن أعطى لأبنائه كل شيء.